fbpx
عبد المطلب جبر: رحيل نبيل… بعد مشوار جليل

لقد مر أكثر من عام على رحيل جبر المؤثر والفاجع بيد أن ذلك لم يخفف من الأسى إلا قليلاً

ما أصعب أن أشرع في الكتابة عن رجل عزيز وحبيب مثل د. عبد المطلب أحمد جبر، وهو سيد الحرف وسلطان الكلمات وبوصلة الشعر ومدهش النقد، ولكم علًمنا أن شعر المناسبات قلما يفوز بالجودة الفنية. ماذا عساي أن أكتب في هذا الأب والأستاذ والأخ والصديق والزميل والقدوة الحسنة؟ لقد مر أكثر من عام على رحيله المؤثر والفاجع بيد أن ذلك لم يخفف من الأسى إلا قليلاً. عرفناه أستاذاً حميماً صاحب رحمة وعطف بمن يدرسهم وبكل من يعرفهم، يحمل بين جوانحه همومهم ويساعدهم في حلها بالقول وبالفعل.
واسع المعرفة والإطلاع في مجالات شتى، صاحب ذوق رفيع ورؤى نقدية فذة وطريقة تدريس لا يمكن وصفها بسهولة إلا أنها عبقرية.
عرفناه رئيس قسم لم تغير طباعه الإدارة ولا المسؤولية. كان شعاره: «الرحمة فوق العدل». لم يتعسف ولم يتكلف. ومع أن الإدارة كما قيل تدخل فيها وليس لك أعداء وتخرج منها وليس لك أصدقاء، لكن جبر رئيس قسم زاد رصيده من الأصدقاء في ظل إدارته، نظراً إلى تعامله الراقي مع كل من يطرق باب مكتبه. رجل رأس ماله الأخلاق حيث سارت به الحياة، ومهما حاولت أن تغره بمنصب أو جاه.
تبوأ منصب السكرتير الثقافي لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، فعمل على مساعدة المغمورين من الباحثين والنقاد لطبع أعمالهم، ولم يعمل على طباعة رسالتيه الجامعيتين ونشرهما على حساب الإتحاد، رغم قيمتهما العلمية في مجال النقد الأدبي في اليمن، ولم يغتنم موقعه في الرحلات والسفريات الخارجية كما فعل آخرون.
أما عن جبر زميلاً وصديقاً فحدث ولا حرج، فهو يتعامل مع كل واحد من زملائه أو أصدقائه كأنه زميله الوحيد أو صديقه الوحيد، مع أن البعض يغتنم هذه الطيبة والحميمية فيشق على أستاذنا المرهف الحس والوجدان.
كان د مبارك حسن الخليفة، أستاذنا الحبيب، يردد دائماً أن سنوات غياب د. جبر للدراسة في العراق هي سنوات الجدب، وقد صدق فيما قال.
يحب المساكين حباً، رحمته إياهم تحولت إلى محبة، تراه يجالسهم ويسأل عنهم إذا غابوا، وهم كذلك كثيراً ما يطرقون باب مكتب القسم يسألون عن الدكتور عبد المطلب. لقد تأثرنا به وبسلوكه ولكننا لم نبلع مبلغه ولم نستطع مجاراته رحمه الله.
سافر مرة إلى السعودية ضمن وفد من اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، فكان من بين أعضاء الوفد شاب معاق، فأدرك أستاذنا بحساسيته المفرطة أنه قد جيء بهذا الشاب من أجل التسول واستثمار إعاقته لهذا الغرض، فكان هذا ما جرح مشاعر أستاذنا وأفسد مزاجه خلال الرحلة كلها.
وقرأ يوماً مقالاً لي عن التبذير والشره في الأكل في ظل تكاثر المعوزين وتفاقم الحاجة، فقال لي: «تعرف يا دكتور أنني استحيي أن أشتري اثتين كيلو لحم أو ثلاثة في مثل هذا الوسط البائس والأوضاع المتردية».رجل رأس ماله الأخلاق حيث سارت به الحياة، ومهما حاولت أن تغره بمنصب أو جاه
أما في التاريخ والسياسة فقد كان موسوعياً، يحدثك طويلاً فلا تمل من حديثه، فيتحلق من حوله طلابه أو أصحابه مأخوذين بحديثه الحي العميق، لكنه لم يفضل أن يمارس السياسة ولا أن يكتب فيها. لقد سجن في مطلع شبابه بسبب نشاطه السياسي، فلعل ذلك ما جعله يحجم عن ممارسة السياسة في واقع لا يرحم ولا يقدر.
ومرت الأيام مسرعة، فأضحيت رئيس قسم وأستاذي الدكتور جبر عضو في القسم، فمثلما كان خير رئيس كان خير مرؤوس، مع أن معاملتي معه أستاذاً وأباً تطغى على أي معاملة رسمية أو غير رسمية. كان حريصاً على عمله سريع الإعتذار، إذا غاب أو تأخر أقول له: «لا عليك… عذرك معك»، فيقول: «لا، أنت رئيس قسم، فيجب أن تكون في الصورة».
بإذن الله تعالى، سيعمل القسم على طباعة أعماله النقدية من رسائل جامعية وبحوث، وسوف نبحث عمن ينشر هذه الأعمال بالتنسيق مع أسرته الكريمة، علنا نقوم بجزء من الواجب أمام هذا الإنسان الإستثنائي.
أتذكر أنني دافعت عن رسالتي للماجستير، وكان هو رحمه الله رئيس القسم، فقال لي: أنا سأدفع ما يلزم من تكلفة مقابل تجهيز القاعة وغيرها من الأمور التي كانت متواضعة حينذاك، وصارت الآن تثقل كاهل الطالب.
لم يكن يوماً حريصاً على المال أو بخيلاً به، فهو وسيلة وليس غاية، وكان يردد: «هكذا الناس، يحبون الفلوس زيادة».
أما ما خلّفه أستاذنا الناقد الدكتور جبر من دراسات وبحوث فإن أبرزها ما يأتي:
– بحث نال به شهادة الدبلوم العالي بعد الباكالوريس عن شعر لطفي جعفر أمان، وهو دراسة نقدية مبكرة ورصينة.
– رسالة الماجستير التي حضرها في معهد جامعة الدول العربية في مصر، وهي دراسة نقدية عميقة في موضوع التجديد في
الشعر الحديث في اليمن في المدة من 1900م إلى 1955م.
– أطروحة الدكتوراه التي حضرها في كلية الآداب – قسم اللغة العربية بجامعة بغداد، وهي دراسة نقدية أكثر عمقاً مما تقدم، تناول فيها تطور الصورة الفنية في الشعر الحديث في اليمن من 1918م إلى 1973م.
وهناك عدد من البحوث والدراسات المنشورة في المجلات العلمية المحكمة. وهناك ديوان شعر مخطوط للفقيد.
سلام عليك أبا أحمد، ورحمة من الله تغشاك في كل حين. لقد تركت فراغاً شاسعاً في قسمك وكليتك وجامعتك وفي وسط طلابك ومحبيك وأهلك. نسأل الله تعالى ألا يحرمنا أجرك، ولا يفتنا بعدك، وأن يغفر لنا ولك، وأن يجمعنا بك في مستقر رحمته.