fbpx
الذهنية الهووية المجروحة وتواطؤها مع الماضي (1)

في الفترة الأخيرة تم تداول مقال لكاتب اسمه عبد القوي الحربي اليافعي كان يدور حول التأكيد على الأصل “اليماني” لقبيلة يافع، تم تداول هذا المقال على المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل واسعٍ.

 

ولأننا هنا لسنا بصدد نقاش كيفية بروز الهويات القومية والوطنية إلى حيّز الوجود التاريخي في العصور الحديثة، وكيفية تغيّر معانيها بمرور الزمن، وما الذي يجعل هوية عن هوية مقابلة تحوز ما تحوزه من شرعية وجدانية عميقة بين فترةٍ زمنية وأخرى، أو ما سماه صاحب “الأمم المتخيلة” بـ”اختراع الأمم حيث لم تكن موجودة من قبل”، ويكفي الإطلالة على أطروحات مرجعية لبندكت أندرسن (الأمم المتخيلة) وإرنست غلنر (الأمم والقوميات) وتوماس إريكسن (العرقية والقومية: وجهة نظر أنثربولوجية)..وغيرهم، وهي أطروحات درستْ بعمق الكيفية التي تطورت واُخترُعِت بها القوميات والأمم والهويات الحديثة، للوصول إلى فكرة علمية منهجية دقيقة، لكن تبقى وجهة نظر الأستاذ عبدالقوي خاصة به، وتعبر عن انطباعاته الشخصية.

 

ما لفت انتباهي، أن المقال حظي بترحاب كبير وسط عدد كبير من النخب تلك التي تبشرنا ليل نهار بأنها تناضل من أجل دولة مدنية حديثة.

 

ويمكن وصف هذا المقال كرشوة قام الكاتب بتقديمها للنخب ذات “الوعي الهووي” الجارح، حسب تعبير فتحي المسكيني، وعلى إثر هذه الرشوة القبلية الزهيدة التي زعم فيها ومن خلال وعيد تاريخي صارم بأن الدعوات الأخرى ” تريد اعتساف التاريخ والعلم بالترويج لمنتج ثقافي مشوه سرعان ما تلفظه الأجيال”، اعتبرت النُخب هذا المقال وثيقة تاريخية قاطعة وضمانة مستقبلية أبدية طالما وهي تدعم تصوراتها الهووية البحتة، ولم تبال بما تلقي بها هذه المقالة من إشكاليات.

 

(سأكرر للمرة المليون بأنني لستُ ضد أي من الهويات، وليس لدي أي مشكلة على المستوى الشخصي بتاتاً بتاتاً ، لكن أنا ضد القول بوجود هويات سياسية واجتماعية وثقافية طبيعية ونقية وثابتة، أي ضد هيمنة المنطق الهوياتي. والنقاش هنا يروم إلى تفكيك القضايا الإشكالية، وفي نفس الوقت محاولة التركيز على القضايا الحيوية والاستراتيجية في نضالنا العسير للخروج من الماضي والدخول في رحاب دولة حديثة، وكان المفكر التونسي فتحي المسكيني وضع أحد العناوين الفرعية في كتابة “الحرية والهوية نحو أنوار جديدة” ” ما بعد الهووي، أو الحيوي قبل الهووي”، وهو يقرأ الملامح الجديدة في الانتفاضات الشبابية التي غادرت مخانق التصورات الهوياتية السابقة).

 

من وجهة نظر علمية وتاريخية، فإن دولة عُمان المجاورة التي كانت تتبع “جغرافيا اليمن التاريخية”، نٌسبِت إلى اسم وادٍ صغيرٍ، ولم يكن هناك أي ضرر جراء ذلك، أو تصبها لعنات الماضي والمستقبل بسبب التخلي عن هويتها التاريخية، ولم تلفظها الأجيال… بل مقارنة مع ما تعيشه “الجمهورية اليمنية” هي أفضل بكثير، فقد استطاعت أن تنجز دولة بصورة تجعلها تستجيب لتحديات العصر الحديث ولو في حدوه الدنيا: الأستقرار، والخدمات، والاحتياجات الأساسية. وهذا ينسف تماما زعم الأستاذ عبد القوي وتهديده بحصول لعنات مستقبلية عند التخلي عن أساطير التاريخ الموغل في القدم!!! (فضلاً عن أن أسماء الدول التي ظهرت في هذا النطاق الجغرافي منذ بداية التاريخ، وإلى قبل مائة سنة، لم يحمل أيّاً منها اسم الهوية التاريخية، وكما يُزعم).

 

وبالعودة إلى المقال، فإن يطرح ثلاثة إشكاليات، أو ثلاثة تصورات كارثية وخطيرة، وهي تصورات تم السكوت/ التغاضي عنها كلياً في حضرة المدائح الهوياتية الباذخة، وهي على النحول التالي:

– الأول يعزز المقال فكرة تأسيس وتوزيع المجتمع على أساس قبلي محض، وهذا يتنافى تماماً مع المنطق والمنطلق الذي تقوم عليه أي مساعٍ لإقامة دولة مدنية حديثة تستوعب الجميع ويُفترض أن تبدأ بتقويض المراكز التاريخية المتصلبة وتفكيك كل الاستيهامات والأمراض الماضوية المستعصية، قبل أي شيءٍ آخر، وفي الطريق إلى إزالة الفوارق الاجتماعية وإحلال العدالة والمساواة. فإن يزعم رئيس جمهورية، وركزوا جيداً في “رئيس جمهورية”، بأن المجتمع اليمني كله قبائل، أو أن يزعم حفيد شيخ مشائخ اليمن بأن “من ليس بقبيلي فهو ليس بيمني”، فضلاً عن أن الحسن الهمداني، المؤرخ الشهير، قام بتقسيم المجتمع على أساس قبلي دقيق وبحت في تصنيفه، والبعض بالمناسبة يصفه بالأب الأول للهوية اليمنية الحديثة. هذه النزعات والتوجهات تُعزز من إشكاليات الماضي وتعيد انتاجها قوالبه بصورة شتى تحت الفضاء الهوياتي الفضاض والتواطؤ النخبوي معه، وكل ذلك يأتي على الضد تمأماً من أي مساعٍ أو جهود تهدف إلى إقامة دولة مدنية، ولو على المستوى الجهود النظرية.

– الثاني يدعم فكرة او تصور “نقاوة الأصل” بالاستناد على الجذور الضاربة في القِدم، والإشكالية التي يطرحها هنا هي تقسيم المجتمع بناء على الأصول، وإعطاء أهمية وأولوية ومكانة لأولئك الذي تعود جذورهم إلى حقب بعيدة في الماضي، وبالتالي فهو يعتبر، وبصورة غير مباشرة، كل أولئك الذي قَدِموا في فترات زمنية أقرب كطارئين على نسيج المجتمع.

– ثالث هذه الإشكاليات يخص يافع، فيافع منطقة وليس قبيلة وكما زعم الكاتب حتى وإن نُسِبت إلى اسم شخص، وفي هذه المنطقة تنوع كبير، كما وفد إليها كثير من البشر على حقب زمنية مختلفة، ومحاولة إظهار يافع كقبيلة ذات نسب واحد هو تقويض للتنوع الموجود، وتقسيم للفئات الاجتماعية في هذه المنطقة، وإعادة فرزها بناء نقاوة الأصل!.

 

هذا التواطؤ الذي يقترفه النخبوي مع كل هذه الإشكاليات والنزعات الماضوية الصميمة في سبيل دعم وجهة نظره القائلة بوجود هوية تاريخية أصلية طبيعية سرمدية، ليس هو الأول من نوع، ونحن في جنوب ما قبل العام 90 مررنا بحالة شبيهة من التواطؤ، ودار نقاش حاد بين النخب، ما بين وجهة النظر القائلة بإن إعادة لُحمة “اليمن التاريخية” إلى وحدتها المزعومة كفيل لوحده بأن يكون جواز مرور إلى مستقبل أفضل مزدهر، وبين آخرين رأوا بضرورة تجذير التجربة التقدمية في الجنوب، وكذلك في الشمال والتخلص من كل الأشكال التقليدية في سبيل الوصول إلى ذات الأهداف (وهذا سيكون موضوع نقاش الجزء الثاني من هذا المقال).

 

مثال آخر على هذا التواطؤ تمثل في تجربة المشترك، حيث ارتضت القوى ذات الاتجاهات التقدمية الارتباط عن طريق زواج كاثوليكي مع أكثر القوى تقليدية بطريقة لا تستطيع أن تستوعبها إلا من خلال تواطؤ الوعي الهووي المجروح مع الماضي، وإلى حد اللحظة ما زالت الكثير من النخب اليسارية والناصرية تعتقد بأن “القوى التقليدية”، كالإصلاح في الماضي، الذي يجمع بين دفتيه أكثر الأشكال تقليدية، وهو حارس أمين لها، وحصن واقي من أي تغيير، وقد شارك بقوة في وأد جمهورية 26 سبتمبر منذ السبعينيات، وساهم في تدمير الوحدة، ثم ختمها ـ منفرداً ـ بسرقة ثورة الشباب ووأدها، ولاحقاً حركة أنصار الله التي قضت على كل ما تبقى.. ومع كل تلك الموبقات، ستجد نخباً ما زالت تعتقد بأن التحالف مع هذه القوى بإمكانه أن يقود إلى حدوث تغيير نحو الأفضل، وتأسيس جمهورية مدنية حديثة!.

لكن ما هو واضح للعيان، أن هذا التواطؤ القلق مع الماضي، قد جعل كل أشكال الماضي تتراكض في ساحتنا المُستباحة مستحوذة على كل الحيز، فكان الحال كما عبرت عنه بصيرة البردوني النافذة في أكثر من مناسبة: ”
كلّ آتٍ مضى**** أتى كل ماضٍ
ضاع في كلّ**** رايحٍ كلّ غادي
أو
لماذا الذي كان ما زال يأتي ؟ لأنّ الذي سوف يأتي ذهب
لأنّ الوجوه استحالت ظهورا تفتّش عن لونها المغتصب

أو كما عبّر عنه الصحفي المصري محمد حسنين هيكل ذات مقال: “والحقيقة أن هذه المنطقة تقف في حالةٍ بين ماضٍ لا يُريد ان يذهب، ومُستقبلٍ لا يُريد أن يجيء، وبين الأثنين حاضرٌ حافلٌ بكل دواعي الشك الموروث، والغضب الدموي. وتغيير تأخر كثيراً عن موعده، وتأخر كثيراً جداً عن العصر”.