fbpx
“البنديرة” والثعبان

كل شيء مسموح في أعراف “الشرعية”.. كن ما شئت، فأنت في نهاية المطاف من الصف وإلى الصف. حتى لو شاركت في تدمير الدولة، وتسببت في نكبة البلاد والعباد، فأنت باق على وطنيتك، وما عليك إلا أن تبدل الخطاب بكلمتين على الهواء. أي أنك بعد أن تتعب من الحرب وتنتهي من تدمير البلد ثم تفكر أن تغير “الموجة” ولو من باب التكتيك، فأنت مرحب بك، وحيّ على الحوار الجديد لتقاسم الكعكة المغسولة بالدم.

التابو الوحيد النهائي هو أن ترفع “بنديرة الجنوب”. وإن فعلت سيلدغك أحد الثعابين الجنوبية المعدة بعناية لهذه المهمة، قبل أن يفعلها “إخوتك الشماليون” الذين أوكلوا غيرهم، متسقين بذلك مع إرثهم السياسي، بينما أهل الجنوب لم يرثوا سوى أيديولوجيات وعقائد تناثرت فوق المنعطفات فتبوأوا شرف الغباء المتواتر.

هناك فقط “بنديرة” واحده مسموح بها، وهي القاسم المشترك بين الشرعية  والحوثية معاً: راية الدولة اليمنية المقدسة بألوانها الثلاثة، يتخاطفها المتخاطفون ويتشاركها المتحاربون، فمثلما ترفرف في مكتب الرئيس هادي في الرياض، فإنها تتمايل برشاقة على مكتب عبد الملك الحوثي في “الضاحية” أو داخل كهفه في مران (لا نعلم أين هو)، وحين تزغرد على قمم المعاشيق، فإنها تنوح بإيقاع مكمل على أطلال مكتب “الرئيس السابق صالح” وتتلوى الماً على صدى خطاباته الراحلة، ثم تتحول في  خطوط التماس إلى خرقة مشنوقة على سارية فوق دبابة زاحفة، أو مشقوقة ومنكوسة في حفرة من دم وأشلاء وتراب.

ذلك هو المنتج الأخير لراية الوحدة التي يحاول البعض إعادة تأصيلها جنوباً مرة أخرى مقابل إزاحة وإخفاء راية الجنوب، بعد أن ذهب ذاك الزمان المتوحش، حين كانت الأخيرة تُقصف بالمدافع ولم يتم إشهارها الا بعد دماء غزيرة، وبعد أن كان الحراكيون يعدونها في الخفاء، مذكرين بأحد الأسرى المسلمين، من الذين حملهم الأسبان ليعملوا في بناء الكنائس اللاتينية، فذهب ليلاً إلى قبة الكنيسة لينقش بداخلها في السر عبارة ” لا غالب الا الله” وظلت العبارة محفورة خالدة بعد رحيل “الأسياد”.

هل تريدون إعادة الجنوب الى ذلك الزمن بعد كل هذه الدماء؟ سؤال متروك للضمائر خارج اليمن، أما داخله فقد أماتها جنون السلطة والمال وعقائد الأحزاب والجماعات الدينية.

حكام الشرعية، الجنوبيون، الذين فقهوا ثقافة الكلام من خطاب السبعينات وترعرعوا في مدارس تحفيظ الأيديولوجيا وتفتح وعيهم على الفوارق بين البلاشفة والمناشفة، واستغرقوا كثيرا فوق كُتب ماوتسيتونغ، ومقولات كيم إيل، بل واختصموا حول المغزى الحقيقي لشكل تسريحة أنجيلا ديفيس ولحية هوشي منه، أولئك صبيان العهد القديم، هم الذين أوكلت لهم اليوم، من مواقع سلطتهم وفي شيخوختهم، مهمة مطاردة الراية الجنوبية وكأنها تحمل للعالمين رسماً للصليب المعقوف!! وهم بالذات قبل غيرهم من سيشعل حروب الفتن الداخلية، إن سُمح لهم ذلك، وهم من سيحول الصراع اليمني إلى معارك جنوبية جنوبية كي يعاد تصدير الجميع بعد استنزاف نهائي إلى ملوك الطوائف في صنعاء.

العجيب في هذا السياق أن قوائم الإرهاب التي تعتمدها المملكة السعودية ومعها بعض دول التحالف، تضم الإخوان والحوثيين معاً، مع أنهما في الواقع يتحكما باليمن ميدانياً. الاخوان يحكمون الشرعية في المناطق المحررة والحوثيون يحكمون صنعاء وما حولها. ذلك الأمر يحمل معنى واحد: أن دول التحالف لن تنجو من المسّ اليماني وستكتشف بعد رحيل العاصفة بانها كانت تطارد جني أزرق وتضع زبر الحديد بين الصدفين لتوصل “قوم يأجوج ومأجوج” وليس لصدهم.

والعجيب أكثر سيكون في أمر أهل الجنوب إن هُم افترضوا بأن التحالف منزه من الأخطاء ومعصوم من الفشل، أو افترضوا أن السلطة الشرعية تعتبرهم حلفاء في حربها، وكلما فقدوا منصب تنحنحوا عتباً وعتاباً.

الحقيقة أن الجنوب في وسط حرب “متعددة الأطراف والأهداف” وغير مضمونة النتائج، وهي الحرب التي تحتاج أيضاً إلى ساسة عظام وأجهزة حية.. وأقل ما تحتاجه هي العقيدة العسكرية المجردة التي تفترض أن الحرب الدائرة هي حرب أهل السنة والجماعة ضد طائفة أخرى، أو حرب إعادة الشرعية إلى صنعاء على بياض، لأن كلتا الحالتين مهمة إعلامية على الشاشات والمواقع ليس إلا ، أما الحقيقية فهي حرب إرادات تحمل أهداف جيوسياسية ذات بعد استراتيجي، فمن يمتلك القوة على الأرض سيحصل على نصيبه.

ذلك أمر رأيناه في غير مكان من بقاع الارض العربية، ولا ينبغي التساهل مع هذه الحقيقة، مثلما لا ينبغي البحث عن “الطبيعي في اللاطبيعي” أو “التفويت” المتسلسل والتنازل عن الارض وعن القوة مهما كانت المقايضات المرحلية.