fbpx
لمحات من أرشيف الشهيد القائد صالح يحيى سعيد!

الدكتور قاسم المحبشي

منذ أن عرفت الشهيد القائد أ.د. صالح يحيى سعيد في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومشاعر من المودة والاحترام تحيط بصداقتنا، ولكنني لم أكن أدرك مدى الثقة التي يمنحني أياها، الا بعد عملية استشهاده التي لازال يلفها الغموض حتى اللحظة! إذ علمت من أولاده الاعزاء بان والدهم كان يعتبرني أفضل أصدقائه، وكنت اعتبر ذلك نوعا من المجاملة ودماثة الأخلاق من الولد العزيز ناظم – لا سيما وإنني لم أكن من المقربين الى الشهيد ولست عضوا في المجلس الذي كان يقوده بل كنت في كثير من الأحيان انتقد انهماكه في العمل النضالي العام على حساب صحته ومعاشه الذي كان يصرف جله على المقاومين ويحرم أسرته التي تحمل مسؤوليتها الولد آلبار ناظم – لكنني فوجئت البارحة حينما اطلعت على وصيته المكتوبة في أحد دفاتره الخاصة التي أوصاهم فيها بان يمنحوني حق الاطلاع على أرشيفه بعد وفاته والإشراف على كتاب تأبينه، وتلك الوصية الغالية جعلتني منذ البارحة وانّا اعيد التأمل والتفكير في سيرة حياة الشهيد القائد الميداني المتفرد والأكاديمي المحترم الاستاذ صالح يحيى سعيد المشوري، بل وحرصت التدقيق باضبارات الأرشيف الزاخر بالوثائق المفهرسة والمنظمة بترتيب دقيق والتي قلما يتركها الراحلون في مجتمعاتنا العربية. البارحة ذهبت مع الأخوين العزيزين الدكتور زيد قاسم ثابت استاذ اللغة والنقد الأدبي والناشط السياسي المخضرم في جامعة عدن والإعلامي المتألق صلاح القعشمي نائب الناطق الرسمي في المجلس الأعلى ورئيس الدائرة الإعلامية للمجلس في محافظة لحج الى منزل الشهيد العزيز الدكتور صالح يحيى سعيد الكائن في ساحل العريش، منذ الرابعة عصرا وحتى الثامنة مساءا، استقبلنا أكبر أولاده ناظم، وأدخلنا الى غرفة عمل الشهيد ومكتبته الأثيرة، واطلعنا على أرشيفه الذي بثرى محتوياته ودقة تنظيمه، لم نلقى عنأ في البحث عما نريد ابدا، كان ناظم يناولنا من نطلبه من ملفات واحدا تلوا الأخر، سيرة حياة الشهيد مكتوبة بخط يده منذ ميلاده وحتى يوم استشهاده مفهرسة في مجالاتها المتعددة، السيرة الأكاديمية الموثقة بالشهادات العلمية منذ حصوله على شهادة التعليم الابتدائي من
مدرسة قطر النموذجية عام ١٩٦٤م. وشهادة الثانوية العامة أدبي من وزارة المعارف في دمشق ١٩٦٩م وشهادة البكالوريوس من كلية الأداب قسم الاجتماع جامعة دمشق عام ١٩٧٤م والماجستير والدكتوراه من جامعة صوفيا بلغاريا ١٩٨٦م عن بناء النخب القيادية في جمهورية اليمن الديمقراطية. وقرارات تدرجه الأكاديمي في جامعة عدن من استاذ مساعد حتى نيل درجة الاستاذية البروفيسور بما يحتويه الملف من بيان الدرجات والشهادات التقديرية والمساقات التي قام بتدريسها ورسائل الماجستير والدكتوراه التي إشرف عليها والدراسات والبحوث التي إنجزها وغير ذلك .ثم طلبنا ملف سيرة حياته الوظيفية، منذ قرار تعيينه مدير دائرة توظيف الخريجين في وزارة العمل والخدمة المدنية ١٩٧٥- ١٩٧٩م ثم نائب مدير عام دائرة تنظيم وتخطيط أعمال مجلس الوزراء ١٩٧٩-١٩٨١م ورئيس قسم الكادر في سكرتارية اللجنة المركزية ووكيل وزارة الخدمة لقطاع الرقابة والتفتيش الاداري ١٩٩٠-١٩٩٣م. وأستاذ علم الاجتماع في كلية الأداب جامعة عدن منذ ٢٠٠٠م.
كان الملف الخاص بسيرة حياته السياسية النضالية حافلا بالاعمال والانجازات القيادية المشرفة، منذ التحاقه في صفوف الجبهة القومية، إذ كان قائدا شبابيا رائدا في التعليم الحديث ومشاركا في تأسيس الحركة الشبابية والطلابية في الداخل والخارج ومشاركا في الاعمال الفدائية ضد الانجليز، ونال ميدالية مناضلي حرب التحرير، وكان من أوائل الذين هبوا للمقاومة الجنوبية السلمية ضد الاجتياح والاحتلال العسكري الشمالي الغاشم ١٩٩٤م وفِي ٢٠٠٨/١٩/٥م انتخب رئيسا للهيئة الوطنية النضال السلمي لتحرير الجنوب، ومنذ ذلك الحين ظل في مقدمة الصفوف وهو القائد الوحيد الذي بقي على ثبات موقف الحراك الجنوبي واهدافه وظل يقود الجماهير بالميدان وأثناء مسيرته النضالية تعرض للاعتقال أربع مرات بين ٢٠٠٨ -٢٠٠٩ م ولكنه كان يخرج من المعتقلات أكثر تصميما وشجاعة إذ لم يتخلف قط عن مشاركة الجماهير أي فعالية مقاومة في مختلف المحافظات. واتذكر بانني رافقته في احياء فعالية للمقاومة السلمية في منطقة السعدي بيافع، وكانت نقلة نوعية في النضال السلمي الجنوبي بأداة التنوير والتثقيف الفكري عام ٢٠٠٨م.
على كل حال كان ارشيف الشهيد القائد الميداني الفريد أرشيفا متفردا كصاحبه، إذ وجدنا فيه البوم من الذكريات الموثقة منذ طفولته، كان وفيا وحريصا على صور أصدقاءه وذكرياتهم ، ووجدنا فيه ملف لبطاقات الهوية والجوازات والمستندات الكثيرة التي تعد وثائق هامة عن الدولة التي احبها وكافح في بناءها والتي ذهبت في لحظة طيش سياسي غير محسوب النتائج ولكنه لم يتخلى ابدا عن النضال والعمل ليلا نهار من أجل استعادة سيادتها. وهناك أشياء واشياء مما يحتويه أرشيف الشهيد القائد الميداني الابرز سوف نكشف عنها لاحقا، وكل ما اردته بهذه العجالة هو أن تسليط الضوء على زاوية واحدة من حياة الشهيد التي كنا نجهلها، فهو بما تركه من أثر
وثائقي تذكاري علمنا درسا مهما في أهمية التوثيق وقيمته، درس قل نظيره في بيئتنا الثقافية التي تعج بالفوضى. أما حكاية كفاحه من أجل التعليم، الحكاية التي خاضها في منذ طفولته بين قطر ومصر وسوريا وصوفيا فهي تستحق التوقف لذاتها لما فيها من دروس وعبر بالغة الأهمية للكشف عن شخصية الشهيد الذي حرص حرصا شديد على نقل خبرته وحبه للتعليم الى ابناءه وبناته الخمسة، ثلاث بنات خريجات من كليتي الطب والأسنان، الدكتوره ناديه والدكتوره أمل والدكتوره بلقيس أصغرهن معيدة في طب الأسنان ، وولدين جريحين في الدراسات الانسانية. فضلا عن القاضي المحترم الصديق العزيز محسن يحيى ابو وضاح ابن أخت الشهيد رئيس محكمة الضالع وعضو مجلس القضاء الأعلى. اكتشفنا كم كان الشهيد القائد أعمق بكثير مما كان يبدو عليه في الواقع، فهو بسيط حد الغموض، وواضح حد العمق، وصادق حد عدم التصديق، وقائد ميداني لا مثيل له، وعنيد في قناعته مثل السيف، ومخلص في نضاله وحبه لشعبه وقضيته حتى التضحية بحياته! وهكذا كان صديقنا العزيز الشهيد صالح يحيى سعيد حينما خرج عصر الأيام من منزله بكامل صحته وحيويته الى لقاء دٌعي اليه في مجلس المقاومة الجنوبية بمدينة الشعب، وبعد ثلاث جاء خبر استشهاده في ظروف غامضة! وتقول أحد الرويات أنه كان يتكلم واقفا في جمع من قيادات المقاومة وفجاءة توقف عن الكلام
ووضع يده اليسرى على قلبه ورفع يده اليمنى ملوحا بأصبعيه باشارة النصر أو الشهادة وتوقف نبض قلبه ومات كالأشجار واقفاً.
فأي مشعل للنور قد أنطفى
وأي قلب توقف عن الخفقان؟
أيوجد قائد جماهيري كهذا في عدن اليوم؟!
الف رحمة ونور تغشاه في مثواه