fbpx
نخب عربية بلا أسئلة
شارك الخبر

كثير من المصطلحات استعارها الكتّاب العرب من عالم آخر، وألقوا بها في سطور الأعمال الأدبية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. النهضة والتنوير والحداثة وغيرها من الكلمات صارت تتداول في سوق مقفلة محدودة. «النخبة»، كلمة جرى استخدامها ويجري منذ زمن في البلاد العربية على صفحات الكتب ووسائل الإعلام المختلفة. لغوياً تعني الكلمة «الصفوة المنتقاة في المجالات المختلفة، ولها تأثير على شرائح متعددة من الناس». هذا التعبير – النخبة – ولد في خضم سنوات من التدفق الفكري والتطور السريع والشامل في منظومات الفعل والتفاعل الأوروبي في وقت كان فيه العرب يعيشون في غرفة مظلمة مقفلة تحت الحكم العثماني الذي استمر قروناً. عندما اهتزت أوروبا بثورة مارتن لوثر الذي واجه الكنيسة وأطلق المذهب البروتستانتي وترجم الكتاب المقدس من اللاتينية إلى الألمانية، وعارض هيمنة الكنيسة وقدم فهماً جديداً وجريئاً للمسيحية، وتبعه الإنجليز وترجموا الكتاب المقدس. لم يكن ذلك مجرد ثورة داخل الدين، بل في إحياء دور اللغات القومية المحلية. كان الخلاف والاختلاف كبيراً جداً بين الخاصة والعامة حول تلك الثورة، وتداخل تأثير اللغة على الدين وعلى اللغات المحلية، ما أسهم في إشراك العامة من الناس في الخوض والحديث الواسع والنقاش العنيف في ذلك الحدث التاريخي الكبير. كانت الأعمال الفكرية والفلسفية والدينية التي صاحبت ذلك الحدث قد وجدت القوة المعبرة عنها في المطبعة التي صارت قوة تواصل هائلة بين الناس وبلغاتهم المحلية.

كانت الكنيسة تحتكر السلطة والتفكير، ولا مكان للاجتهاد في أمور الدنيا والدين. بعد ثورة مارتن لوثر وتراجع سطوة الكنيسة واختراع الطباعة، بدأ الناس يطرحون الأسئلة حول الإنسان ووجوده في الدنيا، من حيث جسده وعقله وإدارة شؤونه. تحركت العقول للإجابة عن الأسئلة المتدفقة من أرجاء القارة الأوروبية. انطلقت العقول تفكر في كل شيء فكانت الفلسفة التي اتسعت لها الكتب المطبوعة بلغات محلية. وأصبحت كتب الفكر والفلسفة تباع على عربات الباعة المتجولين الذين يبيعون المواد المستعملة. الخلاف بين البروتستانت والكاثوليك الذي وصل أحياناً إلى العنف الدموي، أسهم في توسيع حلقات النزال الفكري. صار للعقل الإنساني رسل وكتب. لم يعد المذهب اللوثري مجرد صرخة في وجه سطوة البابا، بل منهج فتح الباب للعقل ليقود الناس ويجيب عن أسئلة الحياة. تحولت «نخبة» العقل إلى قوة تتسع وتزرع بذور إنجازاتها في تربة متلهفة لإنبات عصر جديد بعقل حر لا تشده قيود. كان عصر التنوير حقبة الزمن التي استعاد فيها الإنسان قوة غيبها الباباوات قروناً، هي قوة العقل. أصبحت الفلسفة أنفاساً للبشر، وأصبح الفلاسفة نخبة تكبر وتتسع ويتعمق تأثيرها بين الناس.

في عهد ذاك العبور الإنساني إلى ضفة الوجود الجديد الذي أنجزته أوروبا، كان العرب كما قلنا في غرفة عثمانية مظلمة مغلقة، اعتبرت فيها الطباعة رجساً، لا وجود للمدارس، لا اجتهاد، لا وسائل نقل أو اتصال. تآكل الموروث الفكري من الدولة العباسية، وغدت الأمية هي الضامن الأكبر لهيمنة السلطان العثماني مثلما كانت يوماً الضامن لهيمنة البابا المسيحي في أوروبا.

النخبة وفقاً لما سبق هي ثلة من قوات الفكر التي تجيب وفق منهج علمي عن أسئلة الحياة المتجددة في كل المجالات، ويتسابق الناس لتبنيها وإدخالها في واقع فكرهم وعملهم. الثورة الصناعية التي نقلت أوروبا من عصور التخلف إلى التقدم كانت من إبداع الفلاسفة الذين فتحوا أبواب العقل بعد أن أخرجوا الناس من الغرفة المظلمة التي ألقاهم فيها الباباوات قروناً طويلة، وقل الشيء ذاته عن كل مضارب الحياة. كانت النخب في أوروبا وطنية في بداياتها ثم اتسعت لتجد المشترك فيما بينها عبر السنوات من خلال صناعة الكتب التي ازدهرت في كل مكان من القارة وصار النقاش العابر للحدود قوة غير محدودة. التقدم الفكري يجعل الأسئلة كائنات تسابق إيقاع الحياة. ما النظام الأمثل للحكم؟ ما النموذج الاقتصادي الذي يحقق الإنتاج الأمثل؟ كيف نحقق العدالة؟ ما قيمة الإنسان؟ ما حدود السلطة الحاكمة وكيف نمنع تغولها واستبدادها؟ أسئلة كثيرة وكثيفة كان الجواب عنها يولد من مختبر كبير هو العقل الذي تحدث بألسنة الفلاسفة والمفكرين وأقلامهم.

لا نخبة دون أسئلة ينطق بها فم الحياة التي تتحرك بلا توقف، ويجتهد العقل المؤهل علمياً للإجابة عنها. وإذا بقي الجواب بين صفحات الكتب أو في أحاديث في غرف أو صالات مغلقة لا يتفاعل معها الناس الذين يخوضون معارك الحياة بإكراهاتها المتراكمة ولا يجدون فيها الخرائط العملية القابلة للتطبيق وتهديهم إلى مسارب المراد، فإن الحروف في الألسن وفوق الورق لا تتعدى أمنيات الدعاء أو هواجس الأحلام. لقد نحت المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي تعبير المثقف العضوي، يقصد بذلك الفرد المتنور الذي يحمل أفكاراً واضحة وبسيطة تعبر عن هموم الوسط المهني أو النقابي والاجتماعي الذي يعيش فيه، ويقدم تشخيصاً موضوعياً للواقع المعيش وكيفية تجاوزه إلى ما هو أفضل.

لقد كتب كثير من الأساتذة والمفكرين العرب في العقود الأخيرة آلاف الكتب في مختلف المجالات، لكن مضامين أغلبها لم تتنزل إلى عقول العامة واهتماماتهم، لأنها في كثير من الحالات لم تطرح الأسئلة التي تكتبها معاناة الناس في حياتهم اليومية، أضف إلى ذلك اللغة الخاصة التي تقترب من قدرات الطبقة الوسطى التي يمكننا أن نقول إنها مكان المثقف العضوي. لقد كتب زكي نجيب محمود، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، وعبد الله الغذامي، وهشام جعيط، وعبد المجيد الشرفي، وعبد الله العروي، وأدونيس، والصادق النيهوم، وقبلهم مالك بن نبي، في قضايا متعددة ومتنوعة تهم المجتمعات العربية، لكنها لم تخلق الصدى الاجتماعي الذي يحقق نقلات عاملة في مفاصل الحياة المختلفة. السؤال: أين الخلل؟ في الأسئلة أم في الأجوبة، أم في معابر التواصل؟ لقد تراجعت الأمية بنسبة كبيرة في مختلف البلدان العربية، لكن الإقبال على القراءة ظل محدوداً جداً وبشكل مرعب مقارنة بالشعوب الأخرى، وغابت حلقات الحوار التي تجعل القضايا الحياتية التأسيسية بؤرة يهفو إليها العامة.

وسائط نقل الإنتاج الفكري والإبداعي عامة لها دور حاسم في إنشاء رابط الاتصال بين المبدع والمستهلك. كثيرون عرفوا نجيب محفوظ من خلال السينما وكذلك يوسف إدريس ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس. من كان من عامة الناس سيعرف أبو فراس الحمداني لو لم تغنِّ له أم كلثوم؟

المسكوت عنه تابو – يتجنبه كثير من المفكرين العرب اليوم بسبب الاضطهاد الذي يتسابق عليه أولئك الذين يرون فيه طريقاً للشهرة أو الانتقام. من الغرائب أن الذي رفع قضية ضد الشيخ الأزهري علي عبد الرازق، عندما أصدر كتابه «الإسلام وأصول الحكم» كان شيخاً أزهرياً وبرأته المحكمة، والذي رفع قضية ضد نصر حامد أبو زيد هو من زملائه أستاذ جامعي. لكي يصل صوت النخبة إلى الناس عليها أن تبحث أولاً عن أسئلتهم وتقدح عقلها للإجابة عنها.

* نقلا عن “الشرق الأوسط

أخبار ذات صله