fbpx
البُعد الأعمق لمشروع هادي التدميري

امين اليافعي

بعضُ الأصدقاء والزملاء، حسنو النية، تفاجئوا بمنشور لي كتبته أول أمس، وزعمتُ فيه بأنه لو استمر هادي لخمسة سنوات قادمة لن نجد أي أثر لهذه البلاد، وسيترحم الناس على كل الزمن السيء الذي عاشوه في السابق، حتى على اللحظة الحالية بكل كارثيتها، على أن الدنبوع العظيم، وكما يُحب أنصاره أن يصفوه، لم يترك لتعليقي أي مهلة عدا عن يومٍ واحدٍ فقط ليمده بدليل قاطع يرجح مصداقية مزاعمه ومخاوفه (ما تضمنه حديث الرئيس مع السفير البريطاني الجديد ونشره موقع وكالة سبأ الرسمي، وهذا ليس الأول من نوعه، بل إن خطاب وسلوك وقرارات السلطات التنفيذية، بكل تفراعاتها ، يمكن أن يُفرد لها دراسة مطوّلة من هذه الزاوية بالذات).
في بلد كاليمن، تطحنها الانقسامات العمودية والافقية بشكل ربما لا نظير له على مستوى العالم في الوقت الحالي، وهناك كمية من مشاعر الكراهية العاصفة تنتشر في كل الجهات، وهي أشبه بحالة الطبيعة الأولى (اللاجتماعية)، حروب كراهية الجميع ضد الجميع، وفي ظل غياب أي شكل بدائي لمشروع أو حتى مشاريع وطنية يمكن التعويل عليها، وفي هذه النقطة الجهنمية بالذات يقف هادي على رأس السلطة.
والبديهيات تقول، بان لحظة انبلاج أي مشروع وطني هي لحظة سمو في المقام الأول، بمعنى أن التطور التاريخي لجماعة أو أمة ما مرّ بشتى التقلبات والصراعات والانقسامات كواحدة من حقائق التاريخ القاطعة، والفكرة التي اخترعها القوميون في تشكيل الدول الحديثة تقوم على أساس إعادة تفسير جوانب للثقافة والتاريخ تنسجم مع شكل الدعوة القومية/الوطنية الجديدة، بما تخلق انطباعاً بالاستمرارية، ويُكرس مشاعر التضامن والولاء اللازم للانتماء، بمعنى هي عملية تنقيح وتنقية ومعالجة مستمرة، للتاريخ، بهدف إعادة تشكيل هذا الواقع على النحو الأمثل، والعودة إلى التاريخ هي في الأساس غاية مرتبطة بالزمن الحاضر (فالتاريخ دائماً هو التاريخ المعاصر، وفقا لعبارة كروتشه)، وهذا الدور لا بد أن يطلع به أشخاص يكونون في الأساس قد قاموا مسبقاً بمعالجة عالية الدقة والاعتناء لأنفسهم حتى تسمو فوق كل الصراعات والنزاعات المحشو بها واقعهم، والتي تحول بينهم وبين الآخرين، في سبيل إنجاح فكرتهم.
وفي كل الدراسات النظرية حول القومية/الوطنية الحديثة تحتل فكرة “بناء المشاعر” أهمية قصوى، فمنذ المفكر الفرنسي إرنست رينان، وهو بالمناسبة المنظّر الأول لفكرة القومية الحديثة، والذي أشار إلى أن الأمة تنتج من خلال شيئين: الذكريات والإرادة، الأول ناجم عن الماضي؛ بحيازة إرث غني مشترك من الذكريات، والثاني ناجم عن الحاضر؛ الالتزام والرغبة بالعيش سوياً : «في الماضي هناك تراث من المجد والندم لا مناص من تقاسمه، أما المستقبل فله برنامجه الذي لا مناص من تحقيقه.. الأمة إذن هي ذلك التضامن الرائع والمستمر والمكون من مشاعر التضحيات التي تمت والتي يكون على استعداد لتقديمها من جديد. إن وجود الأمة عبارة عن “اقتراع شعبي يومي” (ما هي الأمة، إرنست رينان).
وفي كتابه “اللغة والهوية”، يُعلق جون جوزيف بإن إرث الذاكرات الذي أشار إليه رينان سيهمن على المحاولات الأكاديمية والفلسفية المستقبلية في تحليل الهوية القومية، أو هوية الأمة السياسية.
والقوميون/الوطنيون بما أنهم أصحاب هدف غائي من استدعاء محطات في الماضي يرومون إلى القيام بترميم هذه الإرث من الذكريات: في التاريخ؛ محاولة إضاءة جوانب معينة منه، وبعث كل الرموز المشتركة، والاعتناء برموز كل جماعة على حدة لتعزيز الصورة الجماعية المشتركة للجماعة، وفي نفس الوقت التشجيع على المغفرة والنسيان، وكلا الفعلين عبارة عن محو للآثار كما يذهب بور ريكو في عمله العظيم عن “الذاكرة، التاريخ، النسيان”، وهذا المحو يقصد به غاية نفسية معاصرة لخلق فكرة الجماعة الواحدة، فلا يمكن في الأصل ترميم مآسي الماضي وآثار الماضي السيئة ( طبعاً للأسف الشديد الطريقة التي تقوم بها بعض الأنظمة العربية في هذا الصدد تسعى إلى إعادة تفسير التاريخ بما يتلاءم مع تعزيز مكانة جماعة السلطة ذات الخلفية العصبوية، قبلية عشائرية، طائفية، على حساب تاريخ المجموعات الأخرى، وهي عملية يؤدي إلى نتائج عكسية على المستوى السياسي والثقافي والنفسي لدى الجماعات الأخرى). أما في الحاضر فتحرص الدولة ونخبها المختلفة على تشييد فكرة هذه الوحدة واقعاً: على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بما يتكيف مع المتغيرات الاجتماعية والثقافية، بل وتحرص كثير من الدول على سن قوانين تُجرم كل من يدعو إلى التحريض ضد فئات أخرى، فحدوث شرخ على مستوى المشاعر، هو أحد أهم الأسباب لتقسّم واندثار الكيانات السياسية، والسلطة التي تطرح مشاكل الانفصال والانشقاق هي من أهم الأسباب التي تؤدي إلى نهاية الدول حسب رأي جورج بوردو ( أهم الأسباب، وليست السبب الوحيد الكلي، لأنه في بعض المرات قد يؤدي النهج التقسيمي للسلطة الحاكمة إلى قيام حركة وطنية إصلاحية معارضة لها تستطيع ان تزيح هذه السلطة، وتقوم بترميم وإصلاح جوانب العطب على مستوى الواقع وعلى مستوى المشاعر).
لو نظرنا إلى اللحظة الحالية في اليمن، سواء على المستوى الشامل أو على مستوى التقسيمات الجغرافية ذات الطابع السياسي أو الجهوي المحض، ومن خلال قراءة انتاج وتعليقات النخب البارزة على الأحداث المختلفة، سيُصاب المرء بصدمة كبيرة، فالغالبية الساحقة ، خصوصاً المؤثرة سواء على القرار السياسي/الإعلامي أو على المزاج الاجتماعي والمحتوى الثقافي، باتت لا تستطيع أن تقيم حدوداً فاصلة بين الدفاع عن وجهة نظرها وبين الانخراط الكلي في موجة الكراهية تجاه قوى تختلف معها في المشروع السياسي، بمعنى آخر لا توجد لحظة سمو عن الواقع وتشظياته وتمزقاته وصراعاته المريرة الأفقية والرأسية في الطريق إلى إصلاحه لدى الكل، وهذا أمرٌ له نتائج مرعبة، ويمنع كلياً تخلّق أي مشروع بديل رشيد.
في الجانب الآخر، هنالك سلطة سياسية والتي يُفترض بحكم الاعتبار السياسي والقانوني والأخلاقي المحاطة به أن تعمل على معالجة أي مشاعر سلبية بين القوى الاجتماعية تجاه بعضها البعض، بل الكتب المرجعية في فكر الدولة تُشدّد على أن الحكم فنٌ وليس علمٌ، ولأنه كفن يستطيع ـ كسائر الفنون – استخدام العلوم اللازمة له، ومنها علم النفس الاجتماعي ( راجع – على سبيل المثال – روبرت ماكيفير: تكوين الدول، وقد ذكر “علم النفس الاجتماعي” تحديدا من بين كل العلوم)، لكنها وبدلاً عن ذلك تقوم بطريقة منهجية في توظيف كل الانقسامات الاجتماعية لصالح مساعيها غير المشروعة للبقاء الأبدي في السلطة، وهذه، وفي ظل الظروف الحالية، كارثة عظمى.
دراسة الخطاب والسلوك للحكومة الشرعية، ممثلة بمختلف أجهزتها التنفيذية، وكذلك أدوتها الإعلامية، وناشطيها ومفسبكيها، يضعك أمام صورة مرعبة لسياسة ممنهجة للفتك بالنسيج الاجتماعي، واحتفاء وهوس كبير بهذا السلوك المُدمر، وبصورة تتجاوز بكثير كل ما ألفناه من أشكال الصراع السياسي وما يُصاحبه من التباسات ونزق في دول العالم الثالث حيث تبدو ترسبات الماضي والانتماءات ما قبل الوطني تلعب دوراً بارزاً في عوامل ومفاعيل الصراع. ويتجاوز لأنه خطاب صريح، ممنهج، يستخدم كل موارده وأدواته ووسائله وتأثيره في سبيل تكريس الانقسام، وتدمير أي بادرة تبعث على إبقاء روح التعايش ولو في حدوده الدنيا، مع تقنين مسألة الخلاف بين المشاريع السياسية لوسائل ديمقراطية مثلاً، عكس السلوك والخطاب غير الواعي، وهو خطاب مضمر في غالبه الأعم، والذي يتبدى مثلاً في تأييد ودفاع أعمى عن أبناء المنطقة /الجهة، مهما كانت الأخطاء، والتبرير لهم في حال الخروج عن ما هو متفق عليه، وفي نفس الوقت انتقاد حاد لأبناء المناطق الأخرى في حال كانت لهم وجهات نظر مختلفة، صحيح قد تكون له توابع سلبية كبيرة، لأن الجزء اللاوعي ما زال له التأثير الأكبر في سلوك المجتمعات التقليدية، لكن في أسوأ الأحوال لن يرتقي إلى مستوى ما يفعله من دمار وخراب النوع الأول من التعاطي، ولذلك لعدّة أسباب : أولاً لأنه ممنهج ويوظف كل وسائله وأدواته في سبيل ذلك، وثانياً لأن السلطة السياسية في المجتمعات التي لم تصل بعد إلى مرحلة النضوج المؤسسي حيث تسمو المؤسسة ونُظمها على الأشخاص، يكون له تأثير حاسم في تشكيل المؤسسات، وفي تشكيل وعي الناس وسلوكهم في نفس الوقت، وثالثاً لأنه يدفع بالجماعات المعارضة إلى التمترس خلف سياجاتها العصبوية بدلاً من دفعها إلى الانفتاح والاندماج، بينما النوع الثاني يمكن إصلاحه في حال تصرفت السلطات الحاكمة وفقاً لوعي وسلوك وطني حقيقي.
وللأسف الشديد، هنالك من يستقبل مثل هذا السلوك بنوع من الفرح، سواء لمصالح عابرة يحصل عليها، أو في ظل الانخراط ضمن مشاريع سلطوية هوجاء، أو لاعتبار أخرى، سياسية مناطقية ثأرية، وينظرون إلى أي نقد في هذه الاتجاه بعيون ملئوها الريبة والتشكيك في النوايا، مع أن هذا المشروع التدميري الممنهج والواضح المعالم لن ينجو منه أحد على الإطلاق في نهاية المطاف.