fbpx
عن صكوك الغفران للحوثيين

هاني سالم مسهور

يحدثنا التاريخ اليمني المعاصر أنه في 26 سبتمبر 1962م قامت في صنعاء ثورة قادها مجموعة أطلقوا على أنفسهم الضباط الأحرار كانت الثورة ترتكز على إسقاط النظام الأمامي الحاكم على مدار ألف عام في شمال اليمن وإقامة نظام جمهوري ديمقراطي، وعجزت الثورة على مدار سنوات سبع من الإجهاز على النظام الأمامي وظلت الصراعات العسكرية هي السائدة حتى تم التوافق على أن تتزاوج الملكية بالجمهورية ، فلقد نُفي آل حميد الدين وهي السلالة الحاكمة لشمال اليمن خارج بلادها فخرج الإمام البدر وعائلته تاركاً خلفه شيوخ القبائل الموالية لتدخل في الدولة الجديدة تحت راية الجمهورية العربية اليمنية، ولم يتم محاكمة أحد مما أسهموا في إفقار وتجويع وتجهيل الشعب اليمني بل حصل مشائخ القبائل على حصانة ومرتبات ومراتب اجتماعية عالية في إطار الجمهورية.

وحتى وصل الرئيس ابراهيم الحمدي إلى الحكم في الجمهورية العربية اليمنية كانت حالة التزاوج تعيش مراحل الاستقرار فلم يكن هناك حضور للجمهورية بمقدار ما كان هناك تناغم فلقد بقيت مفاصل الدولة بيد مشائخ القبائل وهو الذي رفضه الرئيس الحمدي وبدأ بمحاولة فريدة بتقليم أظافرهم وتثبيت أركان الجمهورية عبر الأنظمة والقوانين غير أن الرئيس الحمدي اغتيل في العام 1977م بعد ثلاثة سنوات فقط وظلت قضية اغتياله لُغزاً من الغاز الجرائم السياسية اليمنية ، لكن عودة المشائخ القبليين إلى سلطاتهم وهم يمثلون البعد الإمامي للعهد السابق للجمهورية يؤشر على أن كانوا خلف حادثة الاغتيال للرئيس وللجمهورية العربية اليمنية تماماً.

تتهامس النخبة الحقوقية والمثقفة في اليمن الشمالي بروايات وشهادات حول اغتيال الرئيس الحمدي فلا أحد يمتلك القوة الممكنة للحديث الصريح بالمتورطين في عملية الاغتيال لذلك تبقى حادثة اغتيال الحمدي تمثل أيقونة حقوقية لم تسقط عبر عقود مضت من تاريخ اليمن المعاصر فهي تمثل في جوهرها العدالة الانتقالية لورثة الجمهورية قبل ورثة الرئيس ابراهيم الحمدي، يقابل ذلك في جنوب اليمن أحداث 13 يناير 1986م بكل ما أحدثته من جرائم وانتهاكات صارخة ظلت واحدة من الحوادث التي لم تعرف محاكمات عادلة يوازيها مرحلة الحكم الماركسي في المجمل العام بعد إعلان استقلال جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الثلاثين من نوفمبر 1967م وما تلاها من حوادث اغتيال وتأميم ونفي وإخفاء قسري.

في صيف العام 1994م وقع في التاريخ اليمني جنوبه وشماله أبشع الجرائم عندما أصدرت مراكز القوى التقليدية المتنفذة في شمال اليمن فتاوى التكفير بشعب الجنوب على إثر الخلاف الذي وقع بين شركاء الوحدة اليمنية علي سالم البيض ممثل الجنوب وعلي عبدالله صالح ممثل الشمال ، تحول الخلاف السياسي إلى صراع ديني فلقد مثلت فتاوى التكفير نقطة تحول عرفت بعدها فضاعات وانتهاكات وجرائم واسعة وصلت إلى استباحة كل ما على تراب الجنوب العربي بغطاء من تلك الفتاوى الدينية والشعارات السياسية المتعصبة ليتم إغفال العدالة الانتقالية جراء المظالم التي حدثت في الجنوب للتحول إلى انتفاضات شعبية بدأت بانتفاضة المكلا عام 1997م وبلغت ذروتها في 2007م بإعلان الحراك الجنوبي ومطالبه بفك الارتباط السياسي عن شمال اليمن.

لم يكن انقلاب الحوثيين على المؤسسة الشرعية السياسية في سبتمبر 2014م سوى الجريمة السياسية الأكثر إجراماً في التاريخ اليمني فالحوثيين تعمدوا هتك النسيج الاجتماعي اليمني بكل فضاعة فمن تفجيرهم للمساجد إلى تفجيرهم منازل خصومهم السياسيين ومروراً بغزوهم الوحشي للعاصمة الجنوبية عدن وجرائم الحرب الموثقة في جريمتي دار سعد والتواهي في يوليو 2015م واستهداف البنية التحتية وتدميرها المتعمد ووصولاً إلى اغتيالهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح وتصفيتهم الجسدية لمئات من ضباط الحرس الجمهوري في ديسمبر 2017م، كل هذه الجرائم والانتهاكات الجسيمة وقعت وفق تعليمات صادرة عبر ما يسمى المجلس السياسي الغير معترف به دولياً.

كان زعيم الانقلابين عبدالملك الحوثي يوزع على أنصاره واتباعه صكوك دخول الجنة لتحفيزهم على قتل المدنيين وانتهاك حرمات الشعب، وكانت أذرع الحوثي في سنوات الانقلاب تعمل على تأليب الرأي العام في داخل اليمن، ومن خلال وزارة التعليم غيرت المناهج وتحولت لمناهج طائفية تزرع الكراهية وتخرب عقول أجيال من أبناء اليمن ومع ذلك فلقد تم الاحتفاء المبالغ فيه بمجرد انشقاق مسؤول متورط في أدلجة عقول أطفال اليمن، تماماً كما يتم الاحتفاء بوزير إعلام حكومة الانقلابين الذي شارك في الترويج على مدى أربعة أعوام للأفكار الطائفية وحرض على الكراهية من كافة المنابر الإعلامية الممولة من إيران.

تغييب العدالة الانتقالية تحت ذريعة الحث على الانشقاقات في صفوف الحوثيين مسألة مقيتة فيها استهانة واستهتار بمئات الأمهات الثكلى على أبنائهن الذين قتلتهم المليشيات وفيه إهانة لشعب عرف التشرد والخوف والجوع والبطش على مدار سنوات الانقلاب الحوثي، لا يمكن بحال من الأحوال قبول مبدأ (المؤلفة قلوبهم) مع كل الذين شاركوا في جريمة الانقلاب ولا يمكن القبول بأن تمنح الشرعية صكوك البراءة والغفران لأن فيه تناقض مع مرجعية مخرجات الحوار الوطني التي فصلت في العدالة الانتقالية ووضعت لها تأطيراً لم يكن موجوداً في التاريخ السياسي اليمني سابقاً وهذا ما يتعين على الحكومة الشرعية أن تعيه وهي التي تتشدق بالمرجعيات كلما احتاجت إليها في المواقف السياسية.

أن تقديم صكوك البراءة للمنشقين عن مليشيات الحوثي الإيرانية هي جريمة قانونية منكرة وخرق فاضح لمرجعية الدين الإسلامي قبل أي مرجعية أخرى فتغييب القصاص العادل ومنح المجرمين براءة من جرائمهم أقصى ما يمكن أن تصل إليه الجريمة بحق ملايين المظلومين من الشعب اليمني جنوبيين وشماليين، بل جريمة تتجاوز اليمن إلى الإقليم العربي الذي ضحى بأبنائه السعوديين والإماراتيين والسودانيين والمغاربة في حرب استعادة كرامة الإنسان قبل استعادة الشرعية السياسية، فالإنسان الذي انتهكت حقوقه جراء الانقلاب السياسي في اليمن هو المظلوم الأول والمجرم هو كل من شارك ولو ليوم واحد مع الحوثيين وانغماسهم في الشر الذي وقع على الإنسانية ، يقول الله تعالى { مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا }.