fbpx
همس اليراعبصراحة وهدوء .  .  . عن المرجعيات الثلاث1

بقلم/د. عيدروس نصر

ما يزال الكثير من السياسيين اليمنيين ومعهم الكثير من الأشقاء والأصدقاء يتحدثون عن المرجعيات الثلاث (المبادرة الخليجية، مخرجات مؤتمر الحوار الوطني اليمني وقرارات مجلس الأمن الدولي وفي مقدمتها القرار 2216) باعتبارها الضمانات (ولنقل الشروط) الأساسية لأية تسوية سياسية منتظرة في اليمن.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ما تزال هذه المرجعيات الثلاث صالحة لاعتبارها شروطاً مقنعة وضامنة لحل الأزمة والحرب في اليمن وما يرتبط بها من تفاصيل وتعقيدات مرئية وغير مرئية وفي مقدمتها القضية الجنوبية؟ وبالأحرى إلى أي مدى يمكن أن يمثل تطبيق هذه المرجعيات ضماناً لا بديل له ولا تشوبه شائبة لإنهاء الأزمة اليمنية بكل تفاصيلها؟

سأرجئ الحديث عن القضية الجنوبية هنا (ليس لعدم أهميتها بل)  لأفرد مساحة كافية لتناول التعقيدات التي صاحبت التعاطي معها عبر تلك المرجعيات، علماً بأن هناك من لديهم حساسية حتى من مجرد ذكر الجنوب والقضية الجنوبية، وسأتحدث هنا عن ثنائيات الشرعية والانقلاب، والحرب والسلام.

جاءت المبادرة الخليجية في محاولة لتقليل كلفة انتقال السلطة عقب الثورة الشبابية السلمية في 2011م وقد جرى تعديلها عدة مرات من قبل فريق الرئيس حينها (علي عبد الله صالح) لتضمن له الشروط التي فرضها بنفسه، ومنها مشاركته بنصف السلطة، ومنحه الحصانة عن أية مساءلة على فترة حكمه الممتدة لثلث قرن، وبغض النظر عن مصادرة حق شباب الثورة في الموافقة أو عدم الموافقة على هذه المبادرة فقد كان الأشقاء يبحثون عن مخرج سلمي يضمن عدم انزلاق اليمن إلى الحرب، ولو أن عملية الانقلاب لم تتم، ولو لم يسلم علي عبد الله صالح مصير البلاد والعباد بما في ذلك مصيره شخصياً للجماعة الحوثية، لكانت مهمة المبادرة قد انتهت منذ أربع سنوات، أما وقد تمرد على المبادرة أحد الموقعين عليها والطرف الرئيسي فيها فإن المبادرة قد فقدت كل معنى للتمسك بها، لسبب بسيط هو أن من تنطبق عليهم المبادرة قد تغيرت مواقعهم، فغاب البعض وجرى التمرد على البعض وتمرد بعض هذا البعض على بعضه الآخر وظهر لاعبون (أو لنقل تضاعف دور قوى سياسية) لم يكونوا طرفا في هذه المبادرة، وخذل البعض بعضا منه، وهكذا اختلطت المعايير وتغيرت مراكز القوى الموقعة على المبادرة وصار الحديث عنها مجرَّد رد جميل للمبادرين وتذكير لهم بنبل ما قصدوه وبخذلان من حاولوا حمايتهم وبالتالي إخفاق محاولات تطبيق مضامين هذه المبادرة النبيلة.

ونعلم أن أهم قوتين على الأرض (في الشمال والجنوب) لم تكونا طرفاً في التوقيع على هذه المبادرة ما يعني أنهما غير ملزمتين بالتقيد بوثيقة لم تكونا طرفاً فيها، ناهيك عن أنها لم تتعرض للقضايا التي يمثلانها.

لقد جرى القفز على  القضية الجنوبية في هذه المبادرة ربما (وأقول ربما) ليس لأن المبادرين لم يكونوا يعلمون بها، وربما التزاما بالاتفاقات التي تعهد الكثيرون منهم بموجبها بــ”الحفاظ على الوحدة اليمنية” وهو شعار براق وجميل لكنه يفتقد لمقومات التعاطي الفعلي معه ولو بحده الأدنى، لكن بعد كل ما جرى وبعد أن تعرض الجنوب لغزوٍ ثاني دمَّر الأرض والبنيان وأزهق الأرواح وأهرق الدماء وحفر ما حفر من الجراح في نفوس الجنوبيين الذين كانوا ما يزالون يئنون من جراح الغزو الأول (1994م) فإن الجنوبيين الذين استعادوا أرضهم من أيدي الانقلابيين، ليسوا ملزمين بما تضمنته المبادرة باعتبارهم لم يكونوا طرفاً فيها ولم يوقعوا على أي من صفحاتها أو فقراتها.

أن الحديث عن أهم متغيرين في اليمن لا يعني بالضرورة مكافأة أحد أومعاقبة أحد، لكننا نتحدث عن حقائق ماثلة لكل ذي عينين لها تأثيراتها الفاعلة في تقرير مستقبل الأحداث في البلد وعدم التعامل معها يعني أننا نتعامل مع معطيات انتهت مفاعيلها ونتجاهل معطيات تثبت كل يوم أنها شديدة الحضور والتأثير والفاعلية في تقرير مسار الأحداث، مما يؤدي إلى إطالة أمد الأزمة وتبديد طاقات ووقت وجهود على ما لا طائل منه.

إن الجنوب لم يعد مجرد أرض محتلة تخضع لهيمنة وتوجهات من اجتاحوها في العامين 1994م و 2015م، بل لقد سجل الجنوب حضوره الحي والفاعل في معترك استعادة السيادة ودحر المعتدين وتحرير الأرض والإنسان، مع تبلور قوى سياسية جنوبية رائدة يمكنها أن تكون عنصراً حاسماً في أي عملية سياسية قادمة تتعلق بالقضية الجنوبية، وعلى رأس هذه القوى السياسية المجلس الانتقالي الجنوبي وكل هذا تعبير عن مستجد فاعل وغير قابل للتجاهل والتجاوز، ومن لا يأخذ بالاعتبار هذا المتغير فإنه لا يغالط إلا نفسه.

كما إن صعدة وحركتها الحوثية لم تعد مجرد قضية مظلومية  بحاجة إلى معالجة عادلة، بل لقد انتقل الحوثيون من مظلومين إلى ظالمين ومن مجرد حركة تدعي الدفاع عن الأقلية الهاشمية إلى كيان اكتسح البلد وهيمن على السكان وحولهم إلى غالبية مظلومة، وتسبب في ما تسبب به من انقلاب وحرب ودمار وصلت آثاره إلى كل بيت.

وعلى ذلك يمكن قياس مواقع بقية القوى السياسية التي وقعت على المبادرة الخليجية وصارت اليوم في معظمها قائمة على دعم الخارج وكرم الأشقاء في إبقائها على قيد الحياة السياسية بما في ذلك من انقلبوا على المبادرة الخليجية طمعاً في استعادة السلطة عن طريق الانقلاب.

الإصرار على التعامل مع الأزمة الراهنة بمعيار عام 2011م (عام صدور المبادرة الخليجية) وتجاهل هذه المتغيرات الهامة والجذرية لا يمثل إلا فشلاً ذريعاً للقوى السياسية اليمنية وسيراً باتجاه تجذير الأزمة بدلاً من حلها وهو ما يعني استمرار الحرب ومواصلة النزيف البشري والمادي والمعنوي والنفسي مهما عاند المعاندون أو كابر المكابرون.

والخلاصة إن المبادرة الخليجية قد جاءت لزمن غير الزمن الراهن لتحل قضايا غير القضايا الراهنة وبين أطراف غير الأطراف الفاعلة اليوم على الساحتين الشمالية والجنوبية وبالتالي فإن الإصرار على اعتبارها شرطاً من شروط حل الأزمة الراهنة لا يمثل الّا تجاوزاً للحقائق الجديدة التي برزت منذ العام 2014م و2015م، وهو ما يعني أن التمسك بها كشرط للخروج من الأزمة الييمنية الراهنة لا جدوى منه ولا نتيجة له ولا فائدة مرجوة فيه.

وخلاصة الخلاصة إننا بحاجة إلى مبادرة جديدة تعالج التعقيدات الراهنة وتأخذ بالاعتبار المعطيات الجديدة على الأرض وتراعي القوى الجديدة التي نشأت بفعل ما شهدته السنوات الأربع الأخيرة من متغيرات عاصفة غيرت في الأولويات وبدلت في المعادلات وأدخلت فيها عوامل جديدة وبينت قيمة مجاهيل جديدة لم تكن قد عرفت قيمها عند إعلان المبادرة.

                       وللحديث بقية