fbpx
هجرات اليافعيين إلى الهند(5)
شارك الخبر

كتب – أ.د.علي صالح الخلاقي
تأثير المهجر الهندي على المجتمع اليافعي
———————————
تركت فترة المهجر الهندي وغيرها من هجرات اليافعيين قديماً وحديثاً بصماتها الواضحة في المجتمع اليافعي, ونجد ذلك التأثير في جوانب عديدة, منها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وهذه الهجرات أفادتهم إلى حد كبير, فقد استطاع بعضهم أن يكونوا ثروات في مهاجرهم, وهم خير مثال للنشاط والجد والأمانة والإخلاص والوفاء, واستفاد المهاجرون في الخارج لا من الناحية الاقتصادية فقط, بل ومن الناحيتين الاجتماعية والثقافية. فاليافعي الذي عاد من هجرته أكثر مرونة وأوفر ثقافة من اليافعي الذي لم يغادر بلاده إلى الخارج( ).
 ولعل التأثير الأبرز هو الاقتصادي الذي تكشف عنه المراسلات من خلال حجم التحويلات المالية التي كانت تصل إلى أسر المهاجرين وتسهم في تحسين أوضاعهم وتساعد الميسورين منهم في شراء الأراضي الزراعية أو بناء البيوت, وغير ذلك. وللتدليل نورد هنا اقتباسات من بعض المراسلات تؤكد حرص أحد المهاجرين –على سبيل المثال- على إرسال الأموال بغرض كسب أراضي زراعية(بَلَد), وهي بمفهوم المزارعين “المال” وليس النقود أو الذهب، فهي مجال عملهم الأساسي ومصدر الرزق والعطاء الذي لا ينضب عبر الأزمان، يمدهم بالخيرات ويضمن لهم مقومات الحياة من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ويحقق لهم العيش الكريم. وكان يقاس ثراء المرء ومكانته بمقدار ما يملك من أرض زراعية خصبة، كما كانت تنشب الفتن والحروب القبلية بسبب حفنة أرض أو شبر منها أو مجرى مياه أو رعي( ).
ففي رسالة من المهجر الهندي سنة 1315هـ نعرف أن المهاجر عبدالرب محمد صالح طلب من أولاد أخوانه صالح عمر وعبدالرب محمد أن يكون أمينهم يجمع منهما المال لغرض كسب بلد(أرض زراعية) في خلاقة. وفي رسالة أخرى منه في العام التالي 1316هـ يوصي أهله في خلاقة أن يكسبوا بما أرسل لهم من مال (بلد زينة) أي أرض جيدة وخصبة (مسنأ) ويفضل أن تكون في وادي القرية أي في مكان قريب إلى البيت. ( ). وفي العام 1317هـ يتعجب من رخص قيمة الأراضي الزراعية وقلّة ما كسبه أهله منها رغم حرصه على إرسال الأموال (القروش, أو البًقش) التي يكابد من أجل جمعها ويقتر على نفسه في مأكله ومشربه في سبيل أن يرسل ما جمعه للأهل لتوظيفها في شراء أراضي ونحوها مما يكون له مردود إيجابي على مستقبل الأسرة( ).
ومن رسائل المهجر الهندي  إلى الأهل في يافع, رسالة من آل خلف العبادي يذكرون فيها إرسال الأموال  وكذا أصناف من الأقمشة والملابس ليس فقط للأهل وإنما أيضا بغرض الاتجار بها ونتعرف من خلالها على أسماء الملابس وأصنافها في ذلك الحين مثل البتكة واللنقي والصولي والبركالة والشوالي..الخ( ).
وتبين الرسائل والوثائق جوانب من الأعمال التجارية التي يقوم بها المهاجرون وامتلاكهم لعقارات ومحلات تجارية (كارخانات) تدر عليهم مبالغ طائلة, وحينما يتوفى البعض في الهند يرسل أهله وكيلاً شرعياً من يافع أو يوكِّل أحد المهاجرين هناك لاستلام الإرث الذي خلفه قريبهم( ), وقد تكون الأموال والأملاك متنوعة وكثيرة وتستغرق من الوكيل لمتابعة الحصول عليها بضع سنوات لاستلام ما له من أموال ومستحقات وتسليم ما عليه من ديون( ). ويشترط أن تكون الوكالة باسم الورثة ذكور وإناث وبسُنن وعادات يافع مع احضار الشهود( ).
 اعتاد اليافعيون في مهاجرهم أن تكون الأملاك في المهجر شراكة بين الأهل أو الأقرباء على أساس الثقة بينهم وبدون توثيق رسمي في مؤسسات الدولة وتكون على اسم الأكبر منهم أو صاحب الثقة, وقد تحدث مشاكل بعد وفاته تؤدي إلى خلاف ونزاع بين الشركاء وانهيار الشراكة مع ما يتسبب عن ذلك من إفلاس( ).
ومع ما للهجرة من فوائد اقتصادية لها أثرها في انتعاش أحوال الأسرة أو في بناء منزل أو غير ذلك، إلا أن لها آثارها الاجتماعية السلبية أيضاً, فخلال سنوات الاغتراب تظل الأسرة في ترقب وشوق لعودة المهاجرين منها ولعل الأمهات والزوجات هن الأكثر انتظارا لعودة أبنائهن وأزواجهن وهم يحملون هداياهم وما تجمع لهم من نقود, وكانت عودة المهاجر عيداً للقرية بشكل عام, وللأسرة بشكل خاص, حيث يُستقبل بالأعيرة النارية وبالزوامل المرحبة به. ويحدث أن يعود البعض من المهاجرين (بخفّي حنين) لعدم توفقهم في مهجرهم, وقد يتخلف آخرون لسنوات يطول معها الانتظار, وقد يلتهم البحر أو المرض البعض منهم فيلقى ربه بعيداً عن أهله ووطنه وتنقطع أخباره. وفي المراسلات التي بين أيدينا أخبار عن من توفاهم الله في مهجرهم نذكر منهم: عبدالله بن عمر علي الخلاقي انتقل إلى رحمة الله بتاريخ يوم الخميس 14 ذو الحجة 1313ه( ),صالح بن محمد عبدالله سالم بن محمد أحمد توفي في حيدر أباد سنة 1315هـ وأوصى على يد عياله وارسل عليهم المعلم عطاف والنواب وزير علي بادشاه( ), مثنى بن عبدالرحمن عبدالله توفي إلى رحمة الله 2 ربيع الثاني سنة( ), عبدالرب بن محمد حامد توفي بتاريخ 4رمضان سنة 1331هجرية( ).
ومن الآثار الاجتماعية السلبية للهجرة أنه وفقاً للتقاليد، فإن أعمال حراثة وزراعة الأرض في يافع عملٌ من اختصاص الرجال، بيد أن عملية التنقل والهجرة تغير الظروف تغييراً جذرياً، فعندما يهاجر الرجال، فإن النساء يضطررن للتكيف والقيام بأعمال رجالهن المهاجرين، أو المتوفين. وها هو أحد المهاجرين في حيدر آباد يقر بهذه الحقيقة, إذ يقول في رسالته:” وأما الحُرمة عرّفت أنها متعوبة في الأرض وأنا في أرض غربة وهي في دارها ما تعلم بحالي وقدنا مهتم على الخروج”( ).
كان من النادر جدا أن ترافق النساء أزواجهن المهاجرين وبحكم إقامة البعض الطويلة فأنهم كانوا  يتزوجون من النساء الهنديات المسلمات وانجبوا أطفالاً لا تربطهم أية صلة بوطن آبائهم إلا فيما ندر. ومع ذلك كانوا يفضلون الارتباط بالزواج من بني جلدتهم اليافعيين المستقرين هناك مع أسرهم ممن حافظوا على العادات والتقاليد اليافعية, فهذا أحدهم يفخر في زواجه من آل الشيخ علي بن هرهرة الذي يصفهم بـ(الخلق الملاح), يقول في رسالته لأخيه كما جاء بالنص:” وانا يا اخيك ناصر تزوجت عند آل الشيخ علي بنت الشيخ حسين بن علي الذي في نارت بيت وخسرت مقدر ثلاثمية ربية ولاكن ماهي خساره عند الخلق الملاح حبينا اعلامكم بذلك”( ).وقد ورد اسمها الكامل شايعة بنت حسين بن علي بن عبدالله بن الشيخ علي هرهرة زوجة ناصر محمد أحمد العبادي, في معرض رد السلام في رسالة أخرى وكذا  اسم مريم بنت علي عبدالله علي العنيس الخلاقي زوجة الولد محمد بن ناصرمحمد أحمد العبادي( ). ويرد اسم زوجة أخرى لمحمد بن ناصر هي خديجة بنت عبدالله بن أحمد الهمداني اليماني, ربما كانت زوجته الثانية وهو ما وُصف بـ”مفتي الشريعة”( ). كما تم زواج البنت مريم بنت عبدالله بن محمد أحمد خلف العبادي من علي بن عوض محمد العبادي( ) .
أدَّى الزواج في الهند وانجاب المزيد من الأولاد إلى زيادة وكثرة الانفاق على الأسر التي تتزايد أعدادها سنوياً, وبالمقابل أدّى ذلك إلى قلة المبالغ المحولة للأهل في الوطن, ففي رسالة من الهند إلى أهله في يافع يطلب أحدهم العفو والسماح لشحة ما أرسل لأهله مقارنة بما كان يرسل لهم من قبل بقوله:” تفضلوا بقبول ذلك واعفوا وسامحوا لأن البيوت امتلأت معنا بأرض الغربة ولا عادها حِيْلِه عليكم الله شاهد ورقيب( ).
ومع ذلك فأن الزواج في المهجر لا يخلو من مشاكل أخرى تؤثر سلباً على بقية المهاجرين, فهذا أحدهم من أهل الخلاقي تزوج من آل بن بريك ثم سافر إلى يافع وترك زوجته في حيدر آباد بدون ما يلزم من نفقة فتحمل أهلها من جانبهم مصاريف مأكلها ومشربها وملبسها لمدة عامين كاملين, وحين طال الانتظار ولم يعد زوجها أو يتواصل معهم تقدموا إلى المحكمة بقضية ابنتهم فطلقها القاضي, وبالمثل فعل آخر, وبسبب تلك الحالات الشاذة أصبح غير مرغوب تزويج أقربائهم إلا بصعوبة وبوجود ضامن لمن يقدم على طلب الزواج خشية أن لا تتكرر مثل هذه المشاكل مع بناتهم( ).
لكن الثابت أن معظم المهاجرين ظلوا على ارتباط قوي وزيارات مستمرة للأهل والأقارب المقيمين في يافع والمعتمدين على التحويلات المالية التي كانت تصل إليهم بانتظام من هؤلاء المهاجرين. ومن خلال هذه الزيارات ساهم هؤلاء المهاجرون في نقل الثقافة والعادات والتقاليد.
*************
من بحث مقدم إلى ندوة(ظاهرة الهجرة اليافعية عبر التاريخ) نظمها مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر يوم 24سبتمبر 2019م في كلية التربية يافع
يتبع غداً.
أخبار ذات صله