fbpx
دور قبيلة مَهْرَة وأعلامها في مصر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة (1)

أ.د.علي صالح الخلاقي

توطئة:

للمَهْرَة حضور قوي ومشاركات فاعلة في الفتوحات الإسلامية خلال القرون الأولى للهجرة، إذ لمعت أسماء المهريين في العراق والشام والمغرب وخراسان والأندلس بشكل يجعلنا نقف وقفة إجلال وتقدير أمام رجالات هذه القبيلة القضاعية الحِمْيَرية، ودورهم في نشر الإسلام وبناء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، وهو دور يفوق أدوارها ومكانتها في العصور اللاحقة التي انكفأت فيها في حدود أراضيها. وقد رأيت أن أخصص هذا البحث لتاريخ هذه القبيلة، ودورها المهم في مصر خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة والتعريف بأعلامها، خاصة وأنها ظلت من القبائل العربية الجنوبية المهمة بمصر حتى القرن الثالث الهجري وكانت كثيرة العدد قوية الجانب.

المَهْرَة .. بلاد وقبيلة:

مَهْرَة قبيلة تُنسب، كما يُجمع النسابة العرب الأوائل، إلى مَهْرَة بن حَيْدَان بن عمرو بن الحَافِ بن قضاعة بن مالك بن حِمْيَر( ). وهي من القبائل العربية القديمة التي ورد ذكرها في مؤلفات “الكلاسيكيين”( ). ولمَهرة مخلاف باليمن بينه وبين عمان نحو شهر وكذلك بينه وبين حضرموت( ). تمتد أراضيها على طول السواحل الموازية لبحر العرب ما بين حضرموت وعُمَان، كما تمتد في الداخل شمالاً لتشمل جزءاً من الربع الخالي، وهي تشكل اليوم محافظة تحمل الاسم نفسه، وكانت أكثر بلدان اليمن انعزالاً، ولازمها ذلك عبر زمن طويل، ولذلك فقد احتفظ أهلها بسمات مميزة ولغة خاصة بهم هي (اللغة المهرية) التي كانت في الأصل لهجة من لهجات عرب اليمن القديم ( ).
أما أقدم ذكر لقبيلة مَهْرَة فورد في أحد نقوش المِعسَال “في محافظة البيضاء” [نقش4]، وهو النقش الذي تحدث عن ثورة قادها أحرار يهبئر عام 220م، ضد ملك حضرموت (العاذ يلط بن عم ذخر)، وشاركت فيها قبيلة المَهْرَة( ). كما ورد ذكر المَهْرَة في أحد نقوش العقلة “في شبوة” في حوالي 240م، بمناسبة حضور كبير المَهْرَة احتفالات تتويج الملك (يدع إل بين بن ربشمس) من أحرار يهبئر في العقلة( )، وقد شكلت المَهْرَة أرضاً وإنساناً جزءاً من مملكة حضرموت القديمة، بل كانت منطقة المَهْرَة، وظفار مصدر البخور الذي اشتهرت به حضرموت( ).

المَهْرَة عشية الإسلام:

عند ظهور الإسلام، كان يتنازع على رئاسة مَهْرَة رجلان منهم، أحدهما يُسمى “شخريت”، وهو من “بني شخراة”، وكان بمكان من أرض مَهْرَة يقال له: “جَيْروت” إلى “نضون”، وأما الآخر فيسمى “المصبح” أحد بني محارب، وكان بالنجد. وقد انقادت مَهْرَة جميعًا للأخير، إلا من كان مع شخريت، وكانا مختلفين، كل واحد من الرئيسين يدعو الآخر إلى نفسه( ).وقد تكرر هذا الاختلاف جلياً عشية الردة كما سنرى لاحقاً.
ومن شعراء المَهْرَة قبل الإسلام الشاعرة خويلة الرئامية القضاعية، توفيت حوالي عام 33 من الميلاد النبوي. والشاعر مرضاوي بن سعوة المهري، توفي حوالي عام 45 بعد الميلاد النبوي( ).

دخول المَهْرَة في الإسلام:

مع ظهور الدعوة الإسلامية، وتأسيس دولتها في المدينة المنورة تسارعت وفود القبائل إلى الرسول لإعلان إسلامها، والدخول في إطار الدولة الإسلامية الوليدة، ومن بين تلك الوفود، كان وفد قبائل المَهْرَة التي دخلت الإسلام طواعية. ويذكر أهل الأخبار، مثل ابن سعد، بعض رجال “المَهْرَة” ممن وفدوا على الرسول لمبايعته، ومنهم “مَهْري بن الأبيض” و”زهير بن قِرْضم. فقد ورد في “طبقات ابن سعد” قوله: “قدم وفد مَهْرَة عليهم مهري بن الأبيض فعرض عليهم رسول الله الإسلام فأسلموا ووصلهم، وكتب لهم: هذا كتاب من محمد رسول الله لمهري بن الأبيض على من آمن به من مَهْرَة ألا يؤكلوا ولا يعركوا، وعليهم إقامة شرائع الإسلام، فمن بدل فقد حارب، ومن آمن به فله ذمة الله، وذمة رسوله، اللقطة مؤداة، والسارحة منداة، والتفث السيئة، والرفث الفسوق”. وكتب محمد بن مسلمة الأنصاري قال: يعني بقوله لا يؤكلون أي لا يغار عليهم( ).
كما جاء في (الطبقات) أيضاً، عن هشام بن محمد قال: أخبرنا معمر بن عمران المهري، عن أبيه، قالوا: ووفد إلى رسول الله رجل من مَهْرَة، يقال له زهير(وقيل ذهبن( )) بن قرضم بن العجيل بن قباث بن قمومي بن نقلان العبدي بن الآمري بن مهري بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، من الشحر( )، فكان رسول الله يدنيه ويكرمه لبعد مسافته، فلما أراد الانصراف، ثبته وحمله، وكتب له كتاباً، فكتابه عندهم إلى اليوم( )، (أي إلى عصر ابن سعد).

المَهْرَة والردَّة:

كانت المَهْرَيون من بين من ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة الرسول ،وقد أرسل إليهم الخليفة أبوبكر الصديق جيشاً على رأسه عكرمة بن أبي جهل، وحينما دخل مَهْرَة وجدها مقسَّمة بين الزعيمين المتناحرين: “شخريت” ويتمركز في السهل الساحلي، وهو أقل الجمعين عددًا وعدة، و”المُصبح”، ونفوذه على المناطق المرتفعة وهو أكبر الجمعين، فدعاهما عكرمة إلى الإسلام فاستجاب صاحب السهل الساحلي، وأما الآخر فقد اغتر بجموعه فأبى، فصادمه عكرمة ومعه «شخريت» فلحقته الهزيمة، وقد قتل “المصبح” ومعه الكثير من أصحابه، أما “شخريت” فقد سلم نفسه بعودته إلى الإسلام، وأرسل مع الأخماس إلى “أبي بكر الصديق” ( ).

المَهْرِيُّون ودورهم في فتح مصر:

أدى المهريون دوراً كبيراً وملحوظاً في حركة الفتوحات الإسلامية التي وصلت حتى بلاد العراق والشام والمغرب العربي وغيرها من الأمصار التي فتحها المسلمون، إلاّ أن حضورهم ودورهم ظَهَرَا بشكل ملحوظ في فتح مصر، حيث برز منهم الكثير من الرجال الذين كان لهم صيتٌ يُذكر منذ عصر الرسول ومن بين من كانت لهم صحبة مع النبي وشهدوا فتح مصر: نبيه بن صؤاب (وقيل صواب) أبو عبدالرحمن المهري( )، روى عن النبي وسكن مصر( )، وسفيان بن صهابة المهري المعروف بالخرنق الشاعر، ذُكر في الصحابة، وشهد فتح مصر( ). وبرح بن حسكل (والمهريون يقولون برح بن عُسكُل) وكان ممن قدم على رسول الله من مَهْرَة وشهد فتح مصر مع عمرو بن العاص( ).
ومما لاشك فيه أن المهريين كانوا من بين طلائع جيش الفتح، وتجلت شجاعتهم وبراعتهم في القتال حين ضرب المسلمون الحصار على ثغر الإسكندرية، وقتل أحد رجالاتهم، وأسرع جُنْدُ الحامية إلى الاختفاء داخل الحصن. ويروي لنا ابن عبدالحكم تفاصيل الواقعة، نقلاً عن المحدث الشهير يزيد بن أبي حبيب، فيقول: إنه حين خرج فريق الروم من باب حصن الإسكندرية، حملوا على الناس فقتلوا رجلاً من مَهْرَة، فاجتزوا رأسه، فجعل المهريون يغضبون ويقولون: لا ندفنه أبداً إلاَّ برأسه. عندئذ أشار عليهم عمرو بن العاص بضرورة استئناف القتال مع جُند الروم، فعاودوا القتال، ويذكر ابن عبدالحكم صاحب الرواية أنهم سرعان ما قتلوا رجلاً من بطارقتهم فاجتزوا رأسه، وقذفوا به إليهم، فرمت الروم برأس المهري إليهم، وقال عمرو ساعتها: دونكم الآن، فادفنوا صاحبكم( ).
والحقيقة أن بني مَهْرَة كانوا من خير الجُند التي أشاد القائد عمرو بفضلهم في الجهاد وشجاعتهم في القتال، فهو يمدح جُندهم قائلا: “أما مَهْرَة فقوم يَقْتُلْون ولا يُقْتَلُون”( ). وهكذا يشير قائد الجيش إلى شجاعة هذه القبيلة عند فتح الإسكندرية، فهي خير قبائل العرب في القتال والحرب، ولا غَرْو فهي عماد جيشه الفاتح( ).
ومن الملاحظ أن قبيلة مَهْرَة شاركت في فتح الإسكندرية الثاني (سنة 25هـ)، وما يؤكد ذلك النزاع الذي وقع بين مَهْرَة وقريش؛ بسبب المغانم والأسلاب التي أمكنهم الاستيلاء عليها آنذاك، وعدم حصول تميم بن فرع المهري على نصيبه من هذه المغانم بدعوى صغر سنه، فتعصبت قبيلته مَهْرَة له، وتنازعت مع قريش التي يبدو أنها كانت تتولى تقسيم الغنائم، وقد أوضح ذلك ابن عبدالحكم( ) بقوله: “عن تميم ابن فرع المهري قال: شهدت فتح الإسكندرية في المرة الثانية، فلم يسهم لي حتى كاد أن يقع بين قومي وبين قريش منازعة، فقال بعض القوم: أرسلوا إلى بصرة الغفاري، وعقبة بن عامر الجهني، فإنهما من أصحاب رسول الله فاسألوهما عن هذا. فأرسلوا إليهما فسألوهما فقالا: انظروا فإن كان أنبَت (أنبَت: أي ظهر شعر في وجهه.) فأسهموا له، فنظر إليَّ بعض القوم فوجدوني قد أنبت فأسهموا لي”.

يتبع>>>>>>

من كتابي الصادر مؤخراً عن مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر