fbpx
كائنات مجهرية ترعب البشرية !
شارك الخبر

الباحث علي ناصر محمد جبران اليافعي

إن المتابع لأخبار العالم اليوم سيستشعر مدى الذعر والهلع والخوف الذي يشهده العالم من ما أسموه هول الكارثة التي خلفها الفيروس التاجي (كورونا) Coronavirus في الصين خاصة وفي بعض دول العالم.

ورغم أن عدد ضحايا هذا الفيروس لم يصل إلى 700 شخص في كل البلدان التي تفشى فيها الوباء، وهذا العدد قد يخلفه حزام ناسف واحد بيد إرهابي أو صاروخ من طائرة مسيرة على مدرسة أو صالة أعراس (بالخطأ!) أو إسقاط للبراميل المتفجرة على الأحياء المأهولة بالسكان في عدد من الأقطار العربية التي مزقتها الصراعات.

وفي الحقيقة، فإن الخوف لم يأت من فراغ وذلك لأن الكائنات المجهرية لها سمعة سيئة منذ القدم، وسنذكر لكم بعضا من الأمثلة لأمراض أفنت أمما ودمرت حضارات، فمرض الطاعون Plague أو ما يسمى الموت الأسود black death، هو أحد أخطر الأمراض البكتيرية التي عرفتها البشرية، حيث تسببه نوع من البكتيريا سالبة الغرام تسمى اليرسنية الطاعونية “Yersinia pestis”.

والطاعون قد أشير إليه في الكتب السماوية والأحاديث النبوية وكان رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم هو أول من أرسى قواعد الحجر الصحي التي بتنا نعرفها اليوم، حيث قال في الحديث: “إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا”، وذلك للتقليل من الخسائر البشرية ومنع انتشار المرض.

وهذا المرض ينتقل ما بين الفئران والبراغيث، وقد يصاب به الإنسان بشكل عارض إذا تعرض للدغة ذلك البرغوث الحامل للبكتيريا، وخصوصا إذا لم يجد فأرا ليتغذى على دمه، فبالرغم من ظهور بعض الحالات بين الحين والآخر كما لوحظ في مدغشقر قبل عدة أعوام وقبلها في الهند وغيرها من مناطق العالم، إلا أنه يتم علاجه والسيطرة عليه بسهولة في وقتنا الحاضر، وخصوصا إذا ما تم تشخيص المرض في وقت مبكر، حيث إن البكتيريا المسببة للمرض تستجيب بسهولة للمضادات الحيوية، ولكن في الماضي شكل الطاعون كابوسا مرعبا، فهو الذي قوض دولا بكاملها وصدع حضارات وأفنى شعوبا بأسرها، وقد فتك هذا المرض بحوالي ثلث سكان أوروبا في العصور الوسطى ولكنه أيضا وبالرغم من الكارثة التي خلفها إلا أنه كان سببا في ازدهار أوروبا، فقد ساهم في بروز قيم جديدة مهدت لنشأة أوروبا العصر الحديث، والثورة الصناعية والتحول من الاقتتال الداخلي إلى مرحلة الاستعمار والسيطرة على العالم، حيث قلص دور ونفوذ الكنيسة بعد أن عجز الرهبان عن تقديم يد العون والمساعدة في علاج هذا المرض، واكتفوا بالقول إنه غضب وعقاب إلهي لما يظنونه بسبب الذنوب والخطايا، مما جعل الناس في حيرة، فقد كان الرهبان أنفسهم من بين الضحايا لذلك المرض، وكان الطاعون هو أحد أسباب وقف الاقتتال أو ما يسمى حرب المائة عام بين وفرنسا بريطانيا، كما ساهم في إيقاف الحملة الفرنسية بقيادة نابليون على حدود مدينة عكا.

وفيروس الإنفلونزا A Influenza A virus، هو أحد اشرس أنواع الفيروسات وأكثرها انتشارا، وقد تسبب هذا الفيروس بعدد من الفاشيات والجوائح خلال المائة العام الماضية، حيث يذكر لنا التاريخ أنه ما بين عامي 1918م و1919م، فتك هذا الفيروس بما يقارب الـــــ 40 و50 مليون شخص وربما أكثر، ويعتبر الباحثون أنها من أسوأ الكوارث التي حدثت في تاريخ البشرية، فقد خلف ضحايا تفوق ما خلفته الحروب العالمية الأولى والثانية وكان من أهم عوامل انتشار الوباء هي عدم الدراية الكافية عن المسبب لذلك المرض، حيث إن المجهر الإلكتروني الذي يستخدم للكشف عن الفيروسات لم يكن قد اكتشف في حينه وأيضا تردي الأوضاع المعيشية بسبب الحروب والازدحام وسوء التغذية وغيرها، وبالرغم من انتشار المرض في ذلك الوقت في عدد من دول العالم، إلا أنه تسميته بالإنفلونزا الإسبانية كانت بسبب أن الصحف الإسبانية كان لها السبق في نقل أخبار الوباء.

وفي العام 1957م انتشر وباء هذا الفيروس في بعض دول قارة آسيا، ليظهر بعدها تفشي آخر في هونغ كونغ في العام 1968م، وقد طرأت على الفيروس بعض التغيرات الجينية باكتسابها بعض الجينات من فيروسات من نفس الجنس كتلك التي تصيب الطيور أو الخنازير، ومن المعروف أن الفيروسات التي تصيب الحيوانات هي أكثر شراسة من تلك التي تصيب الإنسان وناتج عملية التهجين لتلك الفيروسات هو ظهور سلالة جديدة لم يعرفها الجهاز المناعي من قبل ويصبح الفيروس بحلته الجديدة قادرا على إحداث المرض بشكل مخيف.

وقد لوحظ تفشي وباء إنفلونزا الطيور وإفلونزا الخنازير خلال السنوات العشرين الماضية في عدد من الدول، وهذا الفيروس يتميز باحتوائه على نوعين من النتوءات على سطحه الخارجي تسمى هيماغلوتينين hemagglutinin ونورامينيداز neuraminidase وبسبب التغيرات في ترتيب البروتينات في تلك النتوءات، فقد وجد الباحثون أن هناك أكثر من 16 نوعا من الهيماغلوتينين وأكثر من 9 أنواع من النورامينيداز لذلك تستخدم مصطلحات H1N1 وH1N2… إلخ.

ولك أن تتخيل عزيزي القارئ مدى الصعوبة التي ستواجه الجهاز المناعي في التعرف على تلك السلالات المتحورة، وهنا تكمن خطورة المرض، ومازال فيروس الإنفلونزا يتسبب في عدد من الإصابات حول العالم سنويا، ومرض الجدري Smallpox وهو أيضا مرض فيروسي وربما لم نعد نسمع عن تفشي هذا المرض في وقتنا الحاضر، وذلك لأن الفيروس المسبب للمرض ويسمى فيروس الجدري Smallpox virus قد تم استئصاله من على وجه البسيطة، حيث وجدت آخر حالة مصابة بالمرض في الصومال في العام 1977م، وهذا ما أكدته منظمة الصحة العالمية 1979م ويعتبر الفيروس من أكبر أنواع الفيروسات التي تصيب الإنسان، حيث يصل حجمه إلى أقرب إلى حجم أصغر أنواع من البكتيريا، أي ما يمكننا من رؤيته باستخدام المجهر الضوئي العادي.

لقد تسبب هذا المرض بموت ملايين الأشخاص كما أسهم في إسقاط إمبراطوريات، حيث يعتقد أن المرض كان السبب في سقوط امبراطوريات الازتيك والأنكا في القارة الأمريكية، وقد استخدم كسلاح بيولوجي من قبل الإنجليز ضد الهنود الحمر، وظهر مرض الجدري في العصور القديمة، ويعتقد العلماء أن الفرعون رمسيس الثاني قد توفى وهو في ريعان شبابه بسبب فيروس الجدري، وذلك لما وجدوه من تشابه في العلامات والتشوهات على المومياء مع تلك التي يتسبب بها هذا الفيروس.

ويعود الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في اكتشاف اللقاح للفيروس إلى العالم إدوارد جينر، حيث لاحظ أن الأشخاص الذين هم على اتصال بالأبقار المصابات بجدري البقر لم يصابوا بالجدري، ومن هنا بدأت فكرة استخدام الفيروس المسبب لجدري البقر كلقاح للأشخاص، وذلك لحمايتهم ضد الجدري البشري.

والأهم في موضوعنا هي فيروسات كورونا، مجموعة من الفيروسات التي تصيب الإنسان والحيوان، وقد اشتقت التسمية من اللغة اللاتينية Corona وتعني تاج، وذلك لوجود نتوءات بارزة من الغلاف الخارجي للفيروس، مما يجعله شبيه التاج عند مشاهدته باستخدام المجهر الإلكتروني، كما أن فيروس كورونا ليس وليد اللحظة ويعود تاريخ اكتشافه إلى العام 1965م، حيث تم عزل الفيروس من إفرازات الأنف لمريض مصاب بنزلات البرد Common cold وهذا المرض قد يتميز بأعراض خفيفة جدا يمكن أن يشفى منها المريض حتى دون الاستخدام للعقاقير، ولكن ممكن أن يتطور إلى حالة متوسطة أو مهددة للحياة مثل التهاب القصبة الهوائية والتهاب الرئة، ويعتمد في الغالب على مناعة جسم الإنسان المصاب، والمصدر الرئيس في انتشار الفيروس لا يزال محيرًا، كما الحواضن الطبيعية للفيروس غير معروفة بشكل واضح ولكن يرجح العلماء أن المصدر هي بعض أنواع الحيوانات مثل الخفافيش وقطط الزباد والإبل.

والفيروس ينتقل عن طريق استنشاق الرذاذ والقطيرات لإفرازات الجهاز التنفسي لإنسان مصاب بذلك الفيروس، كما أن ملامسة أسطح وأدوات ملوثة بالفيروس وملامسة الشخص لعينيه وأنفه أو فمه قد يؤدي إلى انتقال الفيروس، ولم يسمع عن الفيروس كثيرا في البشر في القرن العشرين، هذا رغم أن الفيروس تم عزله من عدة أنواع من الحيوانات إلى أن ظهرت أول حالة مصابة بسلالة متحورة من فيروس كورونا بجنوب الصين في العام 2002م، ومن ثم انتشر الوباء ليغطي 26 بلدا حول العالم في العام 2003م، وهذه السلالات المتحورة تسبب مضاعفات خطيرة سميت المتلازمة التنفسية الحادة الوخيم severe acute respiratory syndrome (السارس) SARS.

وكانت بعض مـن الحالات أصيبت بشكل عارض في المختبر أثناء التعامل مع إفرازات وسوائل المرضى، وهناك أكثر من 200 سلالة من فيروس كورونا تصيب الحيوانات، بينما السلالات التي تصيب الإنسان هي إلى يومنا هذا سبع سلالات للفيروس، لكن أشهرها هي SARS-CoV أي سلالة السارس وسلالة MERS-CoV، وهذه السلالة انتشرت في الشرق الأوسط في العام 2012م وبالتحديد في المملكة العربية السعودية، وقد سمي المرض متلازمة الشرق الأوسط التنفسية Middle East respiratory syndrome.

ويعتقد أن المصدر الناقل للمرض كانت الإبل، وآخر سلالة للفيروس هي التي ظهرت في الصين خلال الأيام القلائل الماضية وهناك محاولات يائسة للسيطرة على هذه السلالة التي تسمى 2019-nCoV، وهي سلالة مستجدة لم يسبق أن سجل الإصابة بها لدى البشر قبل هذا، فعملية التهجين هي التي تساهم في إنتاج أجيال وسلالات جديدة للفيروس، وذلك من خلال تكاثر أكثر من فيروس في عائل واحد.

ولا ننسى أمراضا ميكروبية أخرى لا تزال إلى يومنا هذا تحصد عددا كبيرا من الأرواح كل عام، خصوصا في مجتمعات دول العالم الثالث، ومنها مرض الملاريا Malaria الذي ينتقل عن طريق لدغات أنثى بعوضة الأنوفليس ومرض السل الرئوي (الدرن) Tuberculosis، ومرض الإيدز AIDS والزهري Syphilis والايبولا Ebola والكوليرا وغيرها.

إن من أعقد الأمور في السيطرة على تفشى وباء ما هي طرق المعالجة وخصوصا إذا ما وجدت سلالات جديدة، قد لا ينفع معها العلاجات التي استخدمت ضد سابقاتها من السلالات، بالإضافة إلى مقاومة الكائنات المجهرية للمضادات الميكروبية، والأصعب من ذلك كله هو عامل الوقت حيث نجد أن الوباء ينتشر بشكل سريع جدا ويحصد الأرواح، بينما عملية الإنتاج لعقار واحد تحتاج إلى سنوات طوال من التجارب المعملية والسريرية قبل أن يصبح ذلك العقار فعالا وآمنا لإعطائه للمريض، وذلك لضمان عدم حدوث أعراض جانبية ومضاعفات قد تكون أخطر من المرض نفسه، ودمتم سالمين.

الباحث علي ناصر محمد جبران اليافعي

طالب دكتوراه في الاحياء الدقيقة الجزيئية والتشخيصية -معهد البحوث الطبية –جامعة الاسكندرية

 

أخبار ذات صله