fbpx
“يافع نيوز” ينشر دراسة بحثية للدكتور “سعودي علي عبيد” بعنوان “الواقع الراهن.. ومتطلبات الخروج منه “
شارك الخبر

 

يافع نيوز – العاصمة عدن:

المقدمة:
القسم الأول: أهم ملامح هذا الواقع 3
القسم الثاني: أسباب وعوامل هذا الواقع 22
القسم الثالث: متطلبات الخروج من هذا الواقع 29
الخـاتــمـــــة 35

الواقع الراهن.. ومتطلبات الخروج منه
د.سعودي علي عبيد

د.سعودي علي عبيد

المقدمة:
إذا تذكرنا أن الواقع الراهن، الذي نحن بصدد الحديث عنه ومن ثم تشخيصه، هو واقع نتج بسبب الحرب التي نشبت في مارس 2015م، التي لم تضع أوزارها حتى اللحظة. كما أن هذه الحرب كانت لها أسبابها وذرائعها. ومن أجل اكتمال الصورة، فإن من المؤكد بأن لهذه الحرب أطرافها وقواها، ومن ثم مصالحها وأهدافها.
وقبل الخوض في تشخيص الواقع الراهن، يمكن القول بأن هذا الواقع ليس سوى نتاج لمجموعة من الأسباب ذات سمات خاصة، وهي كما يلي:
1. حرب بدأت رغماً عن الجميع، وهي لم تنتهي بعد رغماً عن الجميع كذلك.
2. حرب أسبابها غير محددة عند البعض، وغير معروفة عن البعض الآخر، وأسبابها مخفية لدى البعض الثالث.
3. حرب تبدو كأنها بين أطراف متعددة، ولكنها في الحقيقة بين طرفين أساسيين هما: “الجنوب” و”الشمال”.
4. حرب تعددت أهدافها، وكان ذلك بسبب تعدد أسبابها، وكذا تعدد الأطراف المشاركة فيها.

 

 

الفصل الأول
أهم ملامح هذا الواقع
أولاً: حرب لم تنتهي بعد
ثانياً: لا غالب ولا مغلوب
ثالثاً: جنوب غير محرر كاملاً
رابعاً: سلطات متعددة على أرض الجنوب
خامساً: المقاومة
1. العفوية والعشوائية
2. تعدد المقاومات
3. قلة وضعف التدريب
4. التفاوت في التسليح
سادساً: دولة جنوبية مع وقف التنفيذ

الفصل الأول
أهم ملامح هذا الواقع
من المؤكد بأن الحرب التي نشبت في أواخر مارس 2015م على ساحة الجمهورية اليمنية، والتي لم تنتهي حتى هذه اللحظة، قد أفرزت واقعاً اتسم بالملامح الآتية:

أولاً: حرب لم تنتهي بعد:
بخروج الرئيس عبدربه منصور هادي من صنعاء – بغض النظر عن طريقة ذلك الخروج – ووصوله إلى عدن، يكون الملعب السياسي قد صار لصالح أنصار الله (الحوثيين) وحلفائهم. وهذه النتيجة تمثِّل فرصة مفيدة لصالح إيران، لتعزيز وجودها وتقوية نفوذها باعتبارها حليفاً استراتيجياً لأنصار الله. ومثل هذه النتيجة إذا ما تحققت، ستمثل خطراً محدقاً بدول الخليج بشكل عام، والسعودية على وجه الخصوص. إذ إنها ستقع بين كماشتين: إيران والعراق من الشمال، والجمهورية اليمنية وحليفتها إيران من الجنوب. ومن المؤكد بأن مثل هكذا نتيجة، ستسبب ضرراً وجودياً على المملكة السعودية. أي أن الضرر لن يقتصر على أمنها القومي فقط، بل سيتعدى ذلك ليمس وجودها. هذا إذا تذكرنا أن المنطقة الشرقية والجنوبية من المملكة، يدينون بالمذهبين الشيعي والزيدي. وهما توأمان.

ومشكلة أنصار الله وحلفائهم، أنهم لم يكتفوا بالمنطقة التي كانت تشكِّل الجمهورية العربية اليمنية، بل عملوا على تعزيز تواجدهم في مناطق الجنوب، وهو ما حقق نتيجتين: الأولى استنهاض وتوحيد الجنوبيين ضد أنصار الله وحلفائهم تحت شعارات وأهداف متعددة: وطنية جنوبية، ودينية، ومذهبية وغيرها. أما النتيجة الأخرى، فإن هذا التمدد لأنصار الله وحلفائهم في الجنوب، قد عزز من شعور السعودية بالخطر الإيراني في حالة بقاء الجنوب في يد أنصار الله وحلفائهم.

وبغض النظر عن التفاصيل الكثيرة عن هذه الحرب، إلا أنه من الممكن تشخيصها على النحو التالي:

1. يمكننا القول بأن هذه الحرب، قد قامت في منطقتين، وعلى مرحلتين. المنطقة الأولى تقع في أغلب أراضي الجنوب. وأما فترتها الزمنية فقد بدأت من أواخر مارس 2015 حتى يوليو من العام نفسه تقريباً. ويمكن أن نسجِّل بأن أول منطقة جنوبية تخلصت من التواجد الشمالي، كانت منطقة جبل العُر في يافع، ثم تبعتها الضالع. وقد تحررتا بدون أي دعم من قوات التحالف العربي تقريباً. ثم تبعتهما بقية المناطق وخاصة عدن، التي استكمل تحريرها في (يوليو2015)، وهكذا دواليك. ولم تبقى سوى منطقة مكيراس من نواحي أبين. وهي محاذية لمنطقة البيضاء الشمالية، وقد ضُمتْ إليها إدارياً، وهذا من نتائج وحدة 22مايو1990م. كما لم تتحرر منطقة بيحان. ويمكن تفسير ذلك باعتبار أن بيحان توجد فيها بيئة حاضنة للشماليين، بينما واقع مكيراس يعود إلى انعزال مكيراس عن مناطق الجنوب، بسبب وجود حاجز طبيعي هو “عقبة ثرة”، هذا إذا تجاوزنا النقد الموجه إلى قوات التحالف القائل بخذلان ” التحالف العربي” للمقاومة في هاتين المنطقتين المذكورتين.
أما المنطقة الأخرى، فهي مناطق الجمهورية العربية اليمنية. وقد بدأت المعارك فيها بالتزامن مع المعارك في مناطق الجنوب، ولكنها لم تنتهي حتى هذه اللحظة.
2. يمكننا القول أيضاً، بأن هذه الحرب قد اتسمت بأنها حرب شاملة، ليست فقط من ناحية ساحات القتال، ولكن أيضاً من ناحية استخدام مختلف الأسلحة: الجوية والبرية والبحرية. فقد استخدمت في هذه الحرب كل أنواع الطائرات الحربية والمركبات البرية المختلفة؛ من دبابات ومدرعات. كما اشتركت البارجات البحرية بفعالية في دك المواقع العسكرية للعدو، أو الحصار البحري.
3. ينظر إلى هذه الحرب بأنها تجري بين ما يطلق عليه بتحالف الانقلابيين (الحوثيين وصالح) من جهة، والحكومة الشرعية والتحالف العربي من جهة أخرى. كما ينظر إليها أيضا بأنها تجري بين مليشيات تحالف الحوثيين وصالح من جهة، والجيش الوطني التابع لحكومة الشرعية التي يساندها التحالف العربي من جهة أخرى.
وعند التمعن الدقيق بمجريات الحرب منذ نشوبها وحتى اللحظة الراهنة، سنكتشف بأن التوصيف المذكور سابقاً ليس دقيقاً، إن لم يكن كاذباً وخادعاً تماماً. أما في حقيقة الأمر، فإن هذه الحرب هي في الأساس بين الجنوبيين بمختلف مكوناتهم السياسية والاجتماعية، الذين هبوا للدفاع عن أرضهم، يساندهم التحالف العربي من الجو والبحر. هذا من جهة. أما في الجهة الأخرى فتوجد كل القطاعات العسكرية من الجيش والحرس الجمهوري والأمن المركزي، وجميعها بقيادة تحالف الحوثيين وصالح. أما الحرب ذاتها، فإنها تدور حول الجنوب ومصيره.
وإذا كان ذلك مقبولاً ومفهوماً وواضحاً فيما يخص تلك المعارك، التي دارت على أراضي الجنوب، فإن حشد وتعبئة الجنوبيين في المعارك الراهنة التي يقودها التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات، والتي تدور حالياً داخل مناطق الجمهورية العربية اليمنية ليس مقبولاً من غالبية الجنوبيين. والأسوأ من ذلك كله، القول بأن من يخوض القتال في هذه الأماكن، ليس هم الجنوبيين، بل هو الجيش الوطني التابع للشرعية. وهذا القول يساوي تماماً القول بأن الجيش الوطني يقاتل نفسه. وذلك باعتبار أن تحالف الحوثيين وصالح يقاتل أساساً بجيش دولة الجمهورية اليمنية، الذي يُطلق عليه حالياً الجيش الوطني.
4. في أوقات المعارك الحربية، من المنطقي القبول بتعطُّل المؤسسات وكل ما له علاقة بها، بل وتتأثر دورة الحياة الاقتصادية بكاملها. إلا أن ذلك يبدو غريباً بعد أن تضع الحرب أوزارها. وهذه الظاهرة هي التي نشاهدها في الجنوب حتى بعد أن انتهت الحرب، وصار الجنوب في معظمه محرراً أو خالياً من الوجود الشمالي. فكثير من المؤسسات الجنوبية لم يعاد بناؤها أو تشغيلها. والحياة الاقتصادية لم يعاد إحياؤها.

ثانياً: لا غالب ولا مغلوب:
إن الغلبة والانتصار في أية حرب تتجلَّى من خلال مظهرين: الأول في ساحة القتال، والآخر في ساحة السياسة، وذلك من خلال تغلُّب وانتصار طرفٍ في المعارك العسكرية، واندحار وهزيمة الطرف الآخر. أما في السياسة، فإن ذلك يتجلَّى في فرض الطرف الأول شروطه على الطرف الآخر.
وفيما يخص هذه الحرب، فإن قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”، هي القاعدة السائدة حتى الآن على الأقل. ويمكن إثبات ذلك وفق الاعتبارات الخاصة بالأهداف الرئيسية لكلِّ طرف في هذه الحرب.
1. بالنسبة للجنوب، وإذا افترضنا أنه انتصر في الجبهة العسكرية، وحقق أهدافه فيها بنسبة عالية، وذلك من خلال طرد القوات الشمالية من معظم مناطق الجنوب، فإن انتصار الجنوب في الجانب السياسي لم يتحقق. فالهدف السياسي الأساسي للجنوب المتمثل في استعادة دولته، لم يتحقق حتى اللحظة.
2. وبالنسبة لشرعية عبدربه منصور هادي، فإن أهم أهدافه العسكرية لم تتحقق بالمطلق. فالطرف الآخر الموصوف بالانقلابيين أو بتحالف الحوثيين وصالح، ما زال يقاتل ويقاوم، بل ويهاجم أراضي المملكة العربية السعودية بصواريخ بالستية.
وإذا تذكرنا أن السبب الرئيسي، أو الذريعة الأساسية التي قامت الحرب من أجلها، كانت هي استيلاء تحالف الانقلابيين (الحوثيين وصالح) على السلطة، بعد وضع الرئيس هادي رهن الاحتجاز والإقامة الجبرية، وما تبع ذلك من أحداث، فإن الهدف السياسي الأساسي للحرب كانت إعادة شرعية الرئيس هادي إلى ما كانت عليها قبل حدوث انقلاب 21 سبتمبر2014م الذي قاده الحوثيون، وهو مالم يتحقق كذلك.
3. وبغض النظر عن مصداقية وواقعية هدف إعادة شرعية هادي، الذي تبناه التحالف العربي في هذه الحرب من عدمه، فإن المؤكد بأن هناك هدفاً أو حتى عدة أهداف غير معلنة، كانت هي خلف تدخل التحالف العربي، وخاصة السعودية والإمارات.
وفي هذا السياق، يمكننا ذكر هدفين أساسيين من تلك الأهداف غير المعلنة وهما: تحطيم الآلة العسكرية لتحالف الحوثيين وصالح بشكل كامل. وهو ما يهدف بدرجة أساسية إلى تأمين الحدود المترامية الأطراف بين السعودية و”الجمهورية اليمنية”. أما الهدف الآخر فهو القضاء نهائياً على أي تهديد إيراني للمملكة السعودية، يأتيها من حدودها الجنوبية.
4. أما بالنسبة للطرف الآخر في هذه الحرب (تحالف الحوثيين وصالح)، فإن حالهم ووضعهم أسوأ كثيراً من حال تحالف الطرف الأول المذكورين سابقاً. فهم قد خسروا الجنوب بشكل نهائي تقريباً، كما إن آلتهم العسكرية من معداتٍ وبشرٍ، قد تناقصت إلى مستوياتٍ متدنية جداً. ومشروعهم السياسي قد انهزم، ومناطق الشمال قد تكون معرضة للتقسيم، وما زالت الحرب قائمة ومستمرة على مناطق هذا الطرف حتى اللحظة. وبشكلٍ عام، فإن كلًّ من الحوثيين وصالح قد خسروا الحرب، أكانا مجتمعين أو منفردين فيما يخص مشروعهما وأهدافهما السياسية.
وقولنا بأنه لا يوجد في هذه الحرب ــ حتى الآن على أقل تقدير ــ لا غالب ولا مغلوب، يستند على الآتي:
1. اعتماداً على استمرارية الحرب حتى اللحظة.
2. اعتماداً على عدم تحقيق كل طرف لأهدافه العسكرية كاملة.
3. اعتماداً على عدم وصول كل طرف لهدفه أو أهدافه السياسية، التي رسمها مسبقاً عند قيام هذه الحرب.

ثالثاً: جنوب غير محرر كاملاً:

منذ أن استطاع الشماليون اجتياح أراضي الجنوب واحتلاله في 7/7/1994م، لم يهدأ الجنوبيون في نضالهم من أجل تحقيق هدفهم للخلاص من هذا الاحتلال، وصولاً نحو استعادة دولتهم بحدودها المتعارف عليها دولياً، والممتدة من المهرة شرقاً حتى باب المندب غرباً.
ومن أجل ذلك، فقد أخذ نضال الجنوبيين مسارات متعددة وفق الظروف والإمكانيات. ويمكن تلخيص هذه المسارات على النحو الآتي:
1. التململ والرفض الشعبيان لما حدث للجنوب من احتلال الشماليين للجنوب. وقد تميَّزتْ هذه الحالة بعددٍ من السمات أهمها: إن هذا الرفض والتململ لم يكن شمولياً. بمعنى أنه لم يكن بمثابة حركة أو هبَّة شعبية. بل كان محصوراً في إطار جزء من النخبة الجنوبية المثقفة فقط. أما السمة الثانية، فقد تمثَّلتْ في طريقة التعبير عن ذلك التململ والرفض. إذ كانت طريقة التعبير من خلال الكتابات الأدبية في بعض الصحف المحلية أو العربية، وذلك بحسب ما كانت تسمح به سلطات الاحتلال اليمني. وقد دفع الكثيرون من الجنوبيين ضريبة ذلك العمل. كما تعرضت العديد من الصحف لأنواع مختلفة من العقوبات من قبل أجهزة السلطة التنفيذية والأمنية والقضائية.
2. وكردة فعل على احتلال الجنوب، عملت مجموعة من العسكريين على تنظيم أنفسهم في تنظيم عسكري “حتم”. وقد عملت هذه المنظمة العسكرية على تنفيذ عمليات عسكرية ضد معسكرات الاحتلال اليمني في بعض مناطق الجنوب. وكانت مناطق الضالع وردفان ويافع أهمها. ولكن سرعان ما خمدت هذه العمليات العسكرية أو تم إخمادها. وكان ذلك بفعل مجموعة من العوامل والأسباب، منها:
 اختلال موازين القوى العسكرية بين الطرفين. ذلك أن الطرف الآخر – الاحتلال اليمني – نجده مسلحاً بمختلف المعدات الحربية بدون استثناء، كما أنه كان مسيطراً على الأرض باعتباره محتلاً لها.
 محدودية ساحة المعركة في مناطق معينة من الجنوب. بمعنى أن هذا العمل العسكري، لم يشمل أغلب مناطق الجنوب. وهذه الخاصية أتاحت للطرف الآخر – الاحتلال اليمني – باستفراد واحتواء العمل العسكري لمنظمة “حتم”، ومن ثم ضربها وإخمادها.
 كان نشاط “حتم” موجهاً وممولاً من جهات جنوبية تتواجد في الخارج. وهذه الخاصية مثَّلتْ سلبية في استمرارية نشاط “حتم”.
3. بعد انتهاء حرب صيف 1994م، وبما أدتْ إليها من نتائج أهمها احتلال الجنوب من قبل الشمال، فقد أنبرتْ مجموعة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني ذوي الأصول الجنوبية، للتعبير عن امتعاضهم واستيائهم من الحرب ونتائجها. وقد طالبت هذه المجموعة بضرورة تصحيح مسار وحدة 22مايو1990م، وذلك انطلاقاً من أن تلك الوحدة المذكورة بين كلٍّ من الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، لم تكن عادلة.
ولم يكن نصيب “تيار تصحيح مسار الوحدة” من النجاح أفضل من “حتم”، وذلك لعدة أسباب منها على سبيل المثال لا الحصر:
 انعزالية هذه المجموعة، باعتبار أنها كانت محصورة في مجموعة نخبوية محدودة العدد في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، التي كان قوامها نحو(301) عضواً، بينما هذه المجموعة لم تتجاوز الثلاثين عضواً تقريباً.
 وبرغم أن مشروع هذه المجموعة، كان يحمل في طياته ومضمونة هموم ومظلومية شعب الجنوب، التي وقعت عليه بسبب الوحدة والحرب، إلا أننا نجد أن ذلك التيار، لم يستطع أن يوحِّد جميع أعضاء اللجنة المركزية ذوي الأصول الجنوبية، ذلك أن جزءاً منهم وقف ضد “تيار تصحيح مسار الوحدة”. ويعتبر ذلك من المفارقات العجيبة والكارثية.
 وإذا علمنا بأن غالبية قوام اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي هم شماليون، فإن ذلك يعتبر سبباً كافياً لتفسير وقوفهم ومعارضتهم لأطروحات المجموعة المذكورة، المنادي إلى إعادة النظر في وحدة 22 مايو 1990م. فالجنوب ليس سوى غنيمة من المستحيل التنازل عنها. وهذا هو منطق الشماليين بمختلف اتجاهاتهم وتوجهاتهم، متعلميهم وجهلتهم.
 كما أن “تيار تصحيح مسار الوحدة”، كان مقطوع الصلة بالقاعدة الشعبية الجنوبية. ويعود ذلك إلى سببين أساسيين: موضوعي وذاتي. أما الموضوعي فله علاقة بعدم وجود حراك شعبي واسع مناهض للاحتلال اليمني خلال تلك الفترة الزمنية التي أعقبت الحرب مباشرة، وكذا قوة وجبروت سلطة الاحتلال اليمني حينها. أما العامل أو السبب الذاتي، فله علاقة بهذه المجموعة أو التيار من ناحية محدودية عددهم، وانعدام القاعدة الشعبية المناصرة لذلك التيار.
4. ثم تأسست وتشكلت اللجان الشعبية في العديد من مناطق الجنوب، وكانت أبرزها في عدن والضالع وأبين. وقد تمثلت دواعي تأسيس وتشكيل اللجان الشعبية في مجموعة من الأسباب والعوامل، نذكر منها:
 معاناة شعب الجنوب بسبب تصرفات وسلوكيات الاحتلال اليمني وأدواته القمعية، والسطو على أراضي الجنوب، ونهب ثرواته وتقاسمها على مراكز النفوذ الشمالية.
 فشل الإرهاصات المذكورة السابقة في التأثير على الواقع أو تغييره، أو حتى إجراء أي تعديل عليه.
وقد تميَّز نشاط ونضال اللجان الشعبية بعدد من السمات والوسائل، نذكر منها:
 العلنية، فقد أفصحت وأعلنت اللجان الشعبية عن تأسيس نفسها لجماهيرها وللسلطة، كما كان نشاطها وحركتها علنياً. أي أنها ابتعدت عن السرية لعدة أسباب جوهرية. كما كانت قياداتها الأساسية معروفة.
 كانت تعقد اجتماعات منتظمة وغير منتظمة، تناقش فيها بعض القضايا التي تخص مواطني مناطقها.
 عقد لقاءات مع التجمعات السكنية لمناقشة ما يخص هذه المناطق من قضايا.
 القيام بمسيرات واعتصامات ضد سلطات الاحتلال.
 إصدار البيانات، والكتابة في الصحف حول مختلف القضايا ذات العلاقة فيما كان يعتمل في الجنوب.
وكما حدث للإرهاصات الجنوبية المذكورة سابقاً، فقد تعرضت اللجان الشعبية للاضطهاد والقمع من قبل أدوات القمع التابعة للاحتلال اليمني. فقد تعرَّض نشطاء اللجان الشعبية للاعتقالات والسجن والمحاكمات.
وكما هي حال الإرهاصات السابقة، فقد تعطل نشاط اللجان الشعبية وتوقف عند نقطة معينة، وكان ذلك بسبب توليفه من الأسباب والعوامل، منها ما هو موضوعي، ومنها ما هو ذاتي. وقد لا تختلف عن تلك الأسباب والعوامل التي ذكرناها سابقاً.
5. وعندما نعود إلى مجموعة الأسباب والعوامل المؤثرة في فشل الإرهاصات السابقة الذكر، سنجد أن عامل الفرقة والاختلاف، والتباعد بين المكونات الجهوية (المناطقية) لشعب الجنوب، قد شكَّل العامل الأساسي الذي أدى إلى فشل أو عدم استمرارية تلك الإرهاصات. وعليه، ومن هذا المنطلق برزت فكرة “التسامح والتصالح”، التي تعني نسيان مآسي الماضي “ولو مؤقتاً”. تلك المآسي التي نتجت بسبب الصراعات السياسية داخل النُخَب السياسية الجنوبية، منذ عشية الاستقلال الوطني نوفمبر 1967م حتى الوحدة الاندماجية في 22 مايو 1990م.
وقد انطلقت حركة “التسامح والتصالح” من جمعية ردفان الأهلية في عام 2006م، وذلك عندما بادر لفيف من الجنوبيين، يمثلون مناطق جنوبية متعددة بالدعوة إلى الأخذ بقيمة التسامح والتصالح، وإشاعتها بين الجنوبيين. وعلى أساس تلك الدعوة، تأسست ملتقيات التسامح والتصالح في عدد من محافظات الجنوب. وما زال الجنوبيين يحيون ذكرى تأسيس ملتقيات التسامح والتصالح، وقد اختاروا يوم الثالث عشر من يناير للاحتفاء بقيمة التسامح والتصالح. وفي اختيارهم لهذا التاريخ، فقد أرادوا بذلك تحويل ذلك الحدث المشؤوم إلى حدث تاريخي، يفتح آفاقاً جديدة في نضالهم ضد الاحتلال اليمني من أجل استعادة دولتهم.
6. وبفعل كل تلك التراكمات والإرهاصات السابقة الذكر، فقد انتقل شعب الجنوب في نضاله نحو الثورة السلمية الشاملة، التي جرى الإشارة إليها في الأدب السياسي المحلي بـ “الحراك الشعبي الجنوبي السلمي، الذي انطلق في 7/7/2007م وذلك عندما أقام الجنوبيون فعاليتهم السياسية الرافضة للاحتلال اليمني للمرة الأولى في ساحة العروض (ساحة الحرية) بخورمكسر.
وخلال مرحلة نضال شعب الجنوب في إطار ثورة الحراك السلمي، الذي استمر منذ عام 2007 حتى اندلاع الحرب الأخيرة في أواخر مارس 2015م، يكون شعب الجنوب قد قطع شوطاً مهماً في نضاله من أجل الوصول إلى تحقيق هدفه السامي، المتمثِّل في استعادة دولة الجنوب، بحدودها المعترف بها دولياً من المهرة شرقاً حتى باب المندب غرباً.
ومع أن الهدف النهائي المتمثل في استعادة دولة الجنوب لم يتحقق خلال هذه المرحلة، إلا أنه يمكننا القول بأنه قد تحققت مجموعة من المؤشرات الهامة، نذكر منها ما يلي:
 جرى تدعيم وتقوية قيمة “التسامح والتصالح” بين مختلف المكونات الجهوية لشعب الجنوب في مختلف ساحات الاعتصام والفعاليات والمليونيات.
 خلال فترة نضال “الحراك السلمي” استطاع شعب الجنوب توصيل قضيته إلى الرأي العام الإقليمي والدولي. وكان لقناتي “عدن لايف” و”صوت الجنوب”، ومواقع التواصل الاجتماعي دوراً مؤثراً في ذلك.
 امتزجتْ دماء الجنوبيين في كل بقعة من أرض الجنوب. فاستشهد اليافعي في عدن وشبوه وحضرموت والضالع وغيرها من مناطق الجنوب. كما استشهد الحضرمي في هذه المناطق، واستشهد الأبيني فيها كذلك. وهكذا بالنسبة لباقي مكونات الجنوب.
 قدم شعب الجنوب خلال هذه المرحلة من نضاله تضحيات جسيمة؛ من شهداء وجرحى ومعتقلين ومشردين ومخفيين، ومحكومين بواسطة المحاكمات الصورية.
 استطاع شعب الجنوب خلال هذه المرحلة من نضاله من إعادة تنظيم نفسه، وذلك من خلال تكوين مكونات الحراك الأساسية المتعددة، وغيرها من المكونات الأخرى المساعدة والداعمة لثورته السلمية.
7. ثم اندلعت حرب ربيع 2015م في أواخر مارس. وكانت ساحتها الأساسية أراضي الجنوب وعاصمتها عدن في المقدمة. ويعود سبب ذلك إلى الخاصية الأساسية لهذه الحرب، باعتبارها “حرب تأكيد احتلال الجنوب من قبل الاحتلال اليمني”. أي أن الاحتلال اليمني أراد تأكيد بقاء الجنوب تابعاً له، أو بالأصح مذاباً فيه. ومن أجل هذا الهدف، عمل الشماليون – أو ما أُطلق عليه مجازاً بتحالف الحوثيين وعلي عبدالله صالح – لإرسال المزيد من القوات والمعدات والتشكيلات العسكرية النظامية وغير النظامية إلى الجنوب وخاصة العاصمة عدن.
وفي مواجهة هذا الواقع الجديد، نهض الجنوبيون فرادى وجماعات لمقاومة الغزو الشمالي الجديد، وبرز واقع جديد في الجنوب اسمه “المقاومة الجنوبية”. وقد استمرت هذه المقاومة من أواخر مارس 2015م حتى جرى دحر وإخراج القوات الشمالية من معظم المناطق الجنوبية.
وقد اتسمت هذه المرحلة بعددٍ من السمات والخصائص:
1. كان يتواجد عدد كبير من معسكرات الاحتلال اليمني موزعة في مختلف مناطق الجنوب، إلا أن أغلب أفراد هذه المعسكرات هم من أصول شمالية، ولا يوجد فيها إلا القليل من الجنوبيين، سرعان ما غادروا هذه المعسكرات عندما انفجرت المعارك.
2. من الصعب الحديث عن “جيش وطني” خاص بالجمهورية اليمنية، وذلك لسببين رئيسيين: الأول أنه ومنذ 7/7/1994م تفرَّغتْ سلطة صنعاء، بتصفية المؤسسات العسكرية والأمنية من الجنوبيين، من خلال استخدامها سياسة التقاعد من الخدمة العسكرية بحق وبدون حق، وفي الأغلب باستخدام سياسة التقاعد القسري. والسبب الآخر، هو فتح الباب على مصراعيه لضم الشماليين إلى المؤسسات العسكرية والأمنية، وإغلاق هذا الباب في وجه الجنوبيين إلا في حدودٍ ضيقة.
3. وبسبب عدم وجود مؤسسة عسكرية جنوبية، تقوم بمهمة الدفاع عن أرض الجنوب، فقد قام الجنوبيون بتنظيم أنفسهم في تشكيلات ومجموعات عسكرية عرفت ب “المقاومة الجنوبية”.
4. اعتمدت عملية تشكيل “المقاومة الجنوبية” على طريقتين أو أسلوبين: الأسلوب أو الطريقة الأولى هي التلقائية أو العفوية. والأخرى هي الطريقة أو الأسلوب المقصود أو الهادف. وقد أتت هاتان الطريقتين بالاستناد إلى مجموعة من العوامل منها:
 الهدف أو الدافع الأساسي لكل فصيل من “المقاومة” في هذه الحرب. بمعنى هل هو وطني، كما هو الحال عند المقاومة التي هدفها طرد الاحتلال اليمني من أرض الجنوب، واستعادة حريته ودولته. أو قد يكون تشكيل هذا الفصيل من المقاومة بدافع مذهبي ديني، كما هو الحال عند بعض السلفيين. كما قد يكون تشكيل هذا الفصيل بدافع سياسي حزبي، كما هو الحال عند حزب التجمع اليمني للإصلاح، الذي أُشيع أنه شارك في هذه الحرب.
 ومن تلك العوامل التي لها علاقة بطريقتي تشكيل هذه “المقاومات”، هي الوسائل والقنوات التي استطاعت هذه المقاومات بموجبها الحصول على الأسلحة والأعتدة الحربية، والأموال والمساعدات اللوجستية الأخرى.
ومن المؤكد بأن لكلِّ جهةٍ أو مصدر، أو طرف قام بتقديم تلك الأسلحة والأعتدة والأموال والدعم اللوجستي، هدفه أو أهدافه الخاصة به من هذه الحرب.
والقول بأنَّ الجنوب لم يتحرر كاملاً، هو قول تأكده الحقائق التالية:
1. ما زالت هناك مناطق جنوبية – وخاصة منها الحدودية مع الشمال – تحت سيطرة القوات الشمالية، بيحان ومكيراس، وحضرموت الوادي.
2. ما زالت توجد عدد من المعسكرات والألوية العسكرية في بعض مناطق الجنوب، وكمثال على ذلك في مناطق حضرموت ومنفذ “العبر”، وبجوار بعض حقول النفط.
3. عدم استعادة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لطبيعتها في المناطق الجنوبية المحررة، وفي مقدمتها العاصمة عدن.
4. ارتباط بعض الخدمات الضرورية بصنعاء، مثل شبكات الاتصالات وما له علاقة بذلك، مثل الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي
5. ما زالت قاعدة البيانات الإحصائية في صنعاء.
6. المرتبات. فقد عجزت حكومة شرعية هادي عن توفير المرتبات لموظفي الدولة في القطاعين المدني والعسكري.
7. توجد سلطات مجزأة، بمعنى أن كل محافظة تدير نفسها كل على حده. بل ويمكن القول إن كلًّ منطقة تدير نفسها بشكل مستقل. أي أن هناك انعدام لأية سلطة واحدة في المناطق الجنوبية المحررة.

رابعاً: سلطات متعددة على أرض الجنوب:

فيما يخص الجنوب – الذي لم يتحرر كاملاً – فقد أفرزت هذه الحرب وجود سلطات متعددة على أرضه. وقبل أن نشير إلى هذه السلطات المتعددة، يمكننا الإشارة أولاً إلى الأسباب والعوامل التي أدت إلى هذه الحالة. أي حالة تعدد السلطات على أرض الجنوب. وهنا يمكن ذكر أهمها:
 تعدد الأطراف التي اشتركت في هذه الحرب، بما يعني تعدد الأهداف انطلاقاً من تعدد أطراف الحرب، وبالتالي تعدد المصالح.
 كان للتحالف العربي – وخاصة السعودية والإمارات، اللتان اشتركتا وساهمتا في هذه الحرب بفعالية – وخاصة من الجو والبحر ــ رؤيتهما وأهدافهما الخاصة لكل منهما من هذه الحرب.
 كان لمشاركة التحالف العربي – وخاصة السعودية والإمارات – في هذه الحرب، وكذا تقديم الأسلحة والمال والدعم اللوجستي، دوراً مباشراً في قيام وتشكيل “المقاومات” المتعددة.
 كما أن تعدد هذه المقاومات، قد نتج عنه تعدد واختلاف في طبيعة واتجاهات ورؤى هذه المقاومات، وذلك بحسب تبعيتها وارتباطها.
 وإذا تذكرنا بأن السبب أو الذريعة الأساسية لتدخل التحالف العربي في هذه الحرب، كان استعادة شرعية الرئيس هادي وحكومته، فإن ذلك يعني بان هذه الشرعية كان لها حضورها في هذه الحرب، بغض النظر عن كيفية وحجم هذا الحضور.
ومن العرض السابق، يمكننا استخلاص لوحةً لتعدد السلطات التي تدير أمور المناطق المحررة، وهي على النحو التالي:
1. السلطة الأولى: دول التحالف – وخاصة السعودية والإمارات – وذلك بحكم وضع اليد على الواقع الناتج من الحرب، وبحكم المبادرة الخليجية، وقرارات مجلس الأمن الدولي التي وضعت الجمهورية اليمنية تحت الوصاية الدولية.
وإذا كان من المستبعد أن نجد أي شكل من أشكال السلطة، أو الإدارة المباشرة لكل من السعودية والإمارات في المناطق المحررة، فإن ذلك لا ينفِ وجود هذه السلطة والإدارة لهما وإنْ بأشكال أخرى أكثر قوة وسطوة. ويمكن رؤية هذه السلطة أو الإدارة لكلٍّ من السعودية والإمارات في المناطق الجنوبية المحررة على النحو التالي:
 من خلال أخذ استشارتهما في الترتيبات والتعيينات في أهم مفاصل الإدارة في المناطق المحررة، مثل تعيين محافظي المحافظات، والقادة العسكريين لأهم الوحدات القطاعات والإدارات الأمنية.
 بموجب تفاهمات واتفاق كل من السعودية والإمارات على إدارة ملف “الجمهورية اليمنية” عند بدء الحرب، فيبدو أن العملية قد رست على أن تكون السعودية هي من تدير مختلف المسائل – العسكرية والسياسية والإدارية وغيرها – الخاصة لمناطق الشمال، والإمارات هي من تتولى إدارة ملفات الجنوب المختلفة. وإن كان قد حصل تبدّل في هذا التوزيع لصالح السعودية؛ وذلك بعد أن أدركت الأخيرة بأنها قد فقدت الشمال تماماً.
 بموجب هذا التوزيع المذكور، فقد صار للإمارات مكتباً استشارياً في عدن وحضرموت، تتولى من خلاله إدارة ومراقبة كل النشاطات السياسية العسكرية والأمنية في المناطق المحررة، وعلى وجه الخصوص في عدن وحضرموت. وعلى أساس هذه العلاقة، صارت السلطات المحلية في المناطق المحررة ترتبط بعلاقة وثيقة بهذه المكاتب الاستشارية.
 بسبب واقع استمرار الحرب، وانعدام الدولة بالمفهوم المتعارف عليه، وما نتج عن هذين العاملين الهامين، فقد أدّى ذلك إلى مجموعة من النتائج السلبية على المناطق المحررة في الجنوب، نذكر منها الآن على سبيل المثال لا الحصر، انعدام أو شحة توافر الموارد المالية الضرورية لتسيير ودوران عجلة الحياة في هذه المناطق.
وبحكم شحة الموارد المالية، فقد تكفَّلت السعودية والإمارات بتقديم جزءاً من المتطلبات المالية إلى السلطات المحلية في المناطق المحررة. ومن ذلك على سبيل المثال، تقديم “الوديعة” البنكية من قبل السعودية من أجل مجابهة ارتفاع أسعار السلع الأساسية.
2. السلطة الثانية: التي صارت مشاركة في إدارة المناطق الجنوبية المحررة، هي شرعية الرئيس عبدربه منصور هادي وحكومته. وقد نتجت هذه المشاركة بفعل العوامل التالية:
 خروج الرئيس هادي من صنعاء، بسبب انقلاب أنصار الله على سلطته في 21 سبتمبر 2014م، وانتقاله إلى عدن.
 اندلاع الحرب في 26 مارس 2015م، وتحرير معظم مناطق الجنوب وفي مقدمتها عدن من الوجود الشمالي.
 قرار الرئيس هادي بجعل عدن عاصمة مؤقته للجمهورية اليمنية عوضاً عن صنعاء.
 استمرار الحرب في مناطق الشمال، مما حتَّم أن تكون عدن بمثابة مكان لقيادة وإدارة العمليات الحربية، حتى وإن كان ذلك شكلياً.
وإذا كانت سلطة كلٍّ من السعودية والإمارات في المناطق المحررة – وعدن في المقدمة – قد تجلَّتْ أو ظهرت بطريقة غير مباشرة، أي بواسطة العلاقة مع السلطات المحلية. فإن سلطة الرئيس عبدربه منصور وحكومته، قد تجلَّتْ وظهرتْ بشكل مباشر وصارخ في المناطق المحررة وخاصة العاصمة عدن، مما أدَّى إلى تصادم كبير بين السلطات الثلاث وهي: دول التحالف وخاصة الإمارات وثم السعودية لاحقاً، والسلطات المحلية وسلطة الشرعية.. ويعود ذلك إلى مجموعة من الأسباب نذكر أهمها:
 الفهم الخاطئ أو الملتبس لقرار جعل عدن عاصمةً مؤقتهً للجمهورية اليمنية. فالقرار يهدف في الأساس إلى توفير مكان آمن للنشاط الإداري للرئيس هادي وحكومته، وكذلك إدارة الحرب ضد “تحالف الانقلابيين” في المناطق الشمالية. وقد تحقق ذلك من خلال مكوث الرئيس هادي وحكومته في المجمع الرئاسي في معاشيق.
وقد تجاهل الكثيرون من أن جعل عدن عاصمة مؤقته للجمهورية اليمنية، لا يعني بالضرورة مطلقاً أن الرئيس وحكومته – بحكم وجودهم المؤقت في عدن – أن يشاركا السلطات المحلية إدارة مناطقها، ونخص بالذكر هنا عدن. والسبب أن ذلك يتعارض مع المنطق والممارسة الواقعية.. فالعاصمة – أيٌّ كانت هذه العاصمة – ليست سوى واجهة سياسية ورمز للدولة، وليست مكاناً يمارس الحاكم عليها سلطته. كما أن الممارسة الواقعية تأكد بأن لكلِّ عاصمة سلطتها الخاصة بها. وهكذا كانت العلاقة بين رئيس الدولة عبدربه منصور هادي والعاصمة صنعاء. فلماذا أرادتْ “حكومة الشرعية” برئاسة هادي، تغيير هذا الواقع عندما صارتْ عدن عاصمةً مؤقتةً عوضاً عن صنعاء؟
 السبب الثاني لتصادم سلطة “الشرعية” مع السلطات الأخرى – وخاصة السلطات المحلية – يعود إلى استشعار الرئيس هادي باستمرار الحرب في المناطق الشمالية، وخاصة إذا علمنا بأن خيار استمرار الحرب من عدمها، هي مسألة خارجة عن إرادة ورغبة الرئيس هادي.
ويبدو أن الرئيس هادي قد استشعر بوجود فراغ في ظل استمرار الحرب، ولذا أراد أن يعوِّض ذلك الفراغ من خلال هذا التدخل في سلطات المناطق المحررة، مما أدَّى إلى حالة إرباك في عمل هذه السلطات.
 السبب الثالث قد يكون له علاقة باستشعار، أو تخوف الرئيس هادي لما قد تؤول وتصل إليه الأمور فيما يخص وقف الحرب، والحلول التي ستضع للخروج من الأزمة السياسية. بمعنى أنه من المحتمل أن تتجاوزه هذه الحلول. وهو احتمال ممكن الحدوث في ضوء ما خلَّفته الحرب من دمار وتشظي مادي ونفسي. كما لا ننسى أن الرئيس هادي هو جنوبي، وأن مناطق الشمال هي المتضرر والخاسر الأكبر من هذه الحرب. علما بأن الطرف الآخر(الانقلابيين) ينظرون إلى الرئيس هادي باعتباره “خائناً” للوطن، ودوافع هذا الاتهام مفهوم.
3. السلطة الثالثة: هي السلطات في المناطق المحررة (المحافظات). وفي المنطق البسيط، فقد كان لابد من إجراء تغييرات جوهرية في هذه السلطات مباشرة بعد انتهاء العمليات العسكرية في هذه المناطق، وتطهيرها من الوجود الشمالي بأشكاله المختلفة: السياسي والعسكري والأمني. ويرجع مطلب هذا التغيير إلى اعتبارين اثنين:
– الأول: باعتبار أن معظم – إن لم يكن أغلب – القيادات العسكرية والإدارية والأمنية، التي كانت موجودة في كل مناطق الجنوب، هم من أصول شمالية أو جنوبيون ذوي علاقة بالمنظومة والمصالح الشمالية. وهذا يتطلب العمل على إجراء تغييرات جوهرية في قيادات المؤسسات الجنوبية لما بعد الحرب أو التحرير.
– الثاني: باعتبار أن واقع ما بعد الحرب، أو التحرير في الجنوب ليس كما ما قبل ذلك. بمعنى أن تحرير الجنوب من الوجود الشمالي، ليس سوى مقدمة حتمية وتهيئة ضرورية باتجاه استعادة دولة الجنوب، وهو الهدف الذي ناضل من أجله الجنوبيون منذ احتلال أرضهم في حرب صيف 1994م.
وعليه، وبموجب هذا الاعتبار، لابد من إجراء تغييرات في قيادات المؤسسات المختلفة في الجنوب تمهيداً للنقلة النوعية المنتظرة، وهي استعادة دولة الجنوب، وإعادة بنائها وفق معايير جديدة بشكل كلي يختلف عما كان سابقاً.
وفي واقع الأمر، فقد واجهت هذه العملية تحديات وصعوبات كبيرة تمثَّلت في الآتي:
1. جرى النظر إلى جنوب ما بعد التحرير، ومن ثم التعامل معه وفق واقع ما بعد مايو 1990، أي باعتباره جزءاً من كيان الجمهورية اليمنية. ويعني أنه جرى التعامل معه كمناطق منفصلة عن بعضها البعض. وقد انعكست هذه النظرة والتعامل على مسألة التغييرات، التي يفترض أن تتم في قيادات المؤسسات المختلفة.
2. كما جرى النظر إلى الجنوب ما بعد التحرير، ومن التعامل معه وفق مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، الذي ناقش فكرة تقسيم الجمهورية اليمنية إلى أقاليم، برغم أن ذلك المؤتمر لم يقرُّ عدد الأقاليم، إضافة إلى أن الانقلاب الذي قاده أنصار الله واندلاع حرب ربيع 2015م، كان يعتبر رفضً للتقسيم إلى أقاليم، وهو أحد أسبابها الرئيسية، ناهيك أن الممثلين الحقيقين للجنوب، لم يشاركوا في ذلك المؤتمر المذكور.
3. التصادم بين السلطات التي وجدت في المناطق الجنوبية المحررة بحكم واقع الحرب ونتائجها. وقد تجلَّى ذلك في ظهور نزعة التسيُّد والتغلَب لطرف أو أطراف ضد طرف أو أطراف أخرى. وقد تجلَّتْ هذه النزعة في اختيار وفرض القيادات، التي يجب أن تدير المناطق والمؤسسات في فترة ما بعد الحرب والتحرير. وفي الغالب فقد كان معيار علاقة وولاء القيادات المختارة بأطراف السلطات المذكورة، هو المعيار الرئيسي الذي ساد وجرى تطبيقه عند اختيار معظم القيادات، التي توَّلتْ مسؤولية قيادة وإدارة المناطق والمؤسسات في المناطق الجنوبية المحررة. وكان معيار تلك العلاقة أو الولاء: إما سياسي، أو مناطقي، أو الارتباط بمصالح سابقة ينبغي الحفاظ عليها في ظل العهد الجديد.
وقد نتج عن هذا التصادم بين السلطات المتعددة، مجموعة من النتائج السلبية سنأتي على ذكرها لاحقاً.

خامساً: المقاومة:
بغض النظر عن الأسباب والذرائع المعلنة لحرب ربيع 2015م، فإن مضمون وجوهر تلك الحرب كان في الأساس، هو تأكيد واستمرار واقع احتلال الشمال للجنوب. ولذلك لا غرابة إذا وجدنا أن الساحة الرئيسية لهذه الحرب، كانت هي الجنوب، وخاصة العاصمة عدن التي استمرت فيها المعارك حتى يوليو 2015م.
وكما تعرفنا سابقاً، فإن الحالة العسكرية في الجنوب عند اندلاع الحرب قد اتسمت بالتالي:
 انتشار المعسكرات والألوية العسكرية الشمالية على امتداد كامل المناطق في الجنوب.
 لا توجد أية تشكيلات عسكرية جنوبية مؤهلة للدفاع عن أراضي الجنوب.
 بالإضافة إلى الألوية العسكرية الشمالية ــ التي كانت متواجدة على أراضي الجنوب بشكل عام، وعدن على وجه الخصوص ــ فقد جرى الزج بإعداد كبيرة إضافية من العتاد والأفراد، تمَّ جلبها من الشمال إلى مختلف مناطق الجنوب، وعلى وجه الخصوص عدن.
وعندما بدأتْ الحرب في ظل هذا الواقع العسكري، ومن أجل الدفاع عن أرضهم، لم يكن أمام الجنوبيين من خيار سوى البدء بتنظيم أنفسهم في إطار تشكيلات عرفت لاحقاً بـ “المقاومة الجنوبية”.
وقد اتسم ظهور ظاهرة “المقاومة الجنوبية” بالسمات التالية:
1. العفوية والعشوائية:
كانت العفوية والعشوائية واحدةً من سمات ظهور المقاومة الجنوبية، وذلك يعود إلى أسباب عدة نذكر منها: اندلاع الحرب بشكل مفاجئ بالنسبة للكثيرين، برغم من أن أسبابها وذرائعها كانت موجودة منذ أن دخل أنصار الله العاصمة صنعاء، وما تبعها من أحداث تعرفنا عليها سابقاً. أما السبب الآخر فهو عدم وجود جيش جنوبي، أو حتى قوات جنوبية مدربة ومعدة لمجابهة مثل هذا الواقع الجديد. كما أن مكونات الحراك التي ملأت الساحة الجنوبية، وناضلت سلمياً ضد الاحتلال اليمني، لم تستعد لمثل هذه اللحظة. ولذلك لم تعد نشطائها للعمل العسكري. وبالطبع فإن ذلك لا ينطبق على مناطق مثل الضالع وردفان ويافع، التي كانت في حالة مواجهة ومعارك مستمرة مع الاحتلال اليمني منذ عام 1994م.
وفي ظل هذه الوقائع المذكورة، أتت ظاهرة العفوية والعشوائية في تشكيل المقاومة الجنوبية، التي أخذتْ عدة مظاهر منها على سبيل المثال: تكوين تشكيلات غير مؤسسة على الطابع العسكري التخصصي بحسب تنوع الأسلحة ومجالات العمل العسكري المتعارف عليه، مما أدى ذلك إلى بروز تشكيلات من المقاومة، إما بحسب العلاقات الشخصية والثقة المتبادلة بين الأفراد، أو بحسب النزعة الدينية المؤسسة على المذهب أو المدرسة الفقهية التي تجمع هؤلاء الأفراد، أو بحسب النزعة المناطقية، أو النزعة الوطنية الخالصة المؤسسة على التراث السابق لنضال شعب الجنوب في مختلف المراحل، التي سبقت اندلاع الحرب التي حددتْ هدفها في استعادة دولة الجنوب.
ومن المظاهر التي انعكست في تشكيل “المقاومة الجنوبية”، هي توزع وانتشار المقاومات على الأرض بطريقة عشوائية ومزاجية، لا تخضع لمبادئ ومتطلبات العمل العسكري.
2. تعدد المقاومات:
وبسبب العشوائية والعفوية وطرق تسليح المقاومة، بالإضافة إلى أسباب أخرى سنأتي على ذكرها، فقد برزت ظاهرة أخرى خطيرة، تمثَّلتْ في ظاهرة “تعدد المقاومات”، التي انتشرت وشاركت في هذه الحرب. وعلى أساس هذا التنوع أو التعدد، كانت هناك “مقاومة جنوبية” وأخرى “مقاومة شعبية”. كما وجدت “مقاومة سلفية” وأخرى “إصلاحية”. كما وجدت مقاومة تابعة لأبي فلان، وأخرى لأبي علان. كما وجدت مقاومة تتبع شرعية الرئيس هادي، وأخرى تتبع السعودية وأخرى تتبع الإمارات، وهكذا.
وبدون الخوض في تفاصيل هذه الظاهرة، فإن تعدد المقاومات كانت له آثار سلبية عدة، منها بشكل أساسي: إطالة المعارك على أرض الجنوب، وتعرض هذه المقاومات للكثير من الإصابات بين الأفراد والعتاد. كما كان لظاهرة تعدد المقاومات نتائج سلبية خطيرة برزت بعد انتهاء المعارك في الجنوب، وخاصة في المناطق الجنوبية المحررة. كما كان لهذا التعدد في “المقاومات” أثراً سلبياً في عدم تحرير بعض مناطق الجنوب، كما هو الحال في منطقتي مكيراس وبيحان من جهة، وبقاء مناطق أخرى خارج تأثير ما حدث في الجنوب بشكل عام من جهة أخرى، وذلك كما هو الحال في منطقتي المهرة وسقطرى وحضرموت الوادي.
3. قلة وضعف التدريب:
بسبب نشوب الحرب بصورة عاجلة، وعدم وجود جيش جنوبي، والاستعجال في تشكيل الفرق العسكرية لمقاومة الغزو اليمني الجديد لأراضي الجنوب، كلُّ هذه العوامل نتج عنها تشكيل فرق عسكرية غير مدربة على نحوٍ سليم وكامل.
4. التفاوت في التسليح:
كما أن هناك علاقة بين عفوية وعشوائية ظهور “المقاومات” وتعددها من جهة، والتفاوت في تسليح هذه “المقاومات” من جهة أخرى. بمعنى أن تفاوت وتعدد وتنوع تسليح “المقاومات”، أدى كذلك إلى تلك العشوائية والعفوية، وكذلك تعدد المقاومات.
وبشكل عام، يمكننا رصد عدداً من المنافذ أو المصادر، التي أتت منها الأسلحة والأعتدة العسكرية والمساعدات اللوجستية الأخرى أثناء الحرب وبعدها. وهذه المنافذ أو المصادر تنقسم إلى مصادر أو منافذ داخلية أو محلية من جهة، ومصادر أو منافذ خارجية أو أجنبية، وهي على النحو التالي:
‌أ- المصادر الداخلية:
تٌمثل هذا النوع من المصادر في:
• مصدر ذاتي، إذ قامت المقاومة الجنوبية بتوفير الأسلحة وتراكمها على عدة سنوات سبقت الحرب. وفي الغالب فقد تم توفير هذه الأسلحة بواسطة شرائها من مصادر داخلية في الغالب، بواسطة الأموال الذاتية والتبرعات والدعم من المغتربين الجنوبيين.
• مصدر ذاتي آخر، تمثَّل في السلاح الشخصي لبعض أفراد المقاومة، الذين شاركوا بفعالية في الحرب في صفوف المقاومة.
ومن الجدير بالذكر والتنويه، بأن هذا النوع من التسليح انحصر في الأسلحة الشخصية الخفيفة (البندقية وما في حكمها)، والأسلحة المتوسطة مثل بعض أنواع المدفعية المحمولة على الكتف (آر بي جي).
• مصدر داخلي آخر، إذ حصلتْ المقاومة الجنوبية على أسلحتها من عمليات الاستيلاء عليها من معسكرات الجيش اليمني، أو من خلال الاستيلاء عليها كغنائم من المعارك التي حدثت مع القوات اليمنية قبل الحرب وأثناءها.. وبالإضافة إلى أنواع الأسلحة المذكورة سابقاً، فقد اشتملت هذه الأسلحة المستولى عليها على أسلحة ثقيلة مثل: المدرعات والدبابات وحاملات الجنود ومدافع متوسطة وبعيدة المدى.
‌ب- المصادر الخارجية:
أما المصادر أو المنافذ الخارجية أو الأجنبية، فهي تتلخص في مجموع الأسلحة التي عمل التحالف العربي – وخاصة السعودية والإمارات – تزويد جبهات القتال في مختلف مناطق الجنوب بها. وقد تم توصيل هذه الأسلحة من التحالف العربي إلى “المقاومة” من طريقين: الجو والبحر. كما تنوَّعتْ تلك الأسلحة التي تم تقديمها لجبهات القتال في الجنوب. وقد بدأتْ بالأسلحة الخفيفة، وانتهت بتقديم بعض الأسلحة الثقيلة؛ مثل المدرعات وحاملات الجنود والمدفعية وغيرها. وكان ذلك في المراحل الأخيرة من الحرب، وهي المراحل التي هُيئتْ فيها الظروف لحسم معركة تحرير عدن.
وإذا تجاوزنا عمليات تسليح “المقاومة” بواسطة طرق ومنافذ المصادر الداخلية المذكورة، فإن عملية التسليح من خلال طرق ومنافذ المصادر الخارجية، قد حملتْ معها مجموعة من النتائج أو الأثار السلبية، أهمها خلق وظهور عدد من المقاومات، وذلك كما أشرنا إليه سابقاً.
سادساً: دولة جنوبية مع وقف التنفيذ:
بعد أن وضعت الحرب أوزارها في مرحلتها الأولى، وخروج الجنوب منتصراً عسكرياً بنسبة مئوية كبيرة، وذلك من خلال طرد القوات الشمالية من أغلب مناطق الجنوب، فقد كان من المتوقع والضروري أن تعود الحياة العامة إلى هذه المناطق المحررة. ومن المؤكد بأن هذه العملية تبدأ أساساً من استعادة مؤسسات الدولة المختلفة المركزية والمحلية على حدٍّ سواء لوظائفها ومهامها ونشاطها. إلا إن الواقع يقول غير ذلك تماماً.
وإذا أردنا أن نلخِّص واقع حال مؤسسات الدولة بشكل عام، فيمكننا أن نوجزها على النحو التالي:
– بأنها مؤسسات مهمشة.
– بأنها مؤسسات غير مكتملة.
– بأنها مؤسسات منزوعة الصلاحيات.
أما إذا أردنا معرفة كيف تجلَّتْ هذه السمات المذكورة، فيمكننا أن نلخصها على النحو التالي:
1. كان من المنطقي والمفترض، أن يعاد بناء المؤسسات العسكرية والأمنية الجنوبية مباشرة بعد انتهاء المعارك في الجنوب، ولكن هذا لم يحدث وفق الطرق الصحيحة. ولكن ما حصل في الواقع، هو إنشاء مجموعات قتالية متعددة تتبع جهات متعددة.. فهناك قيادة المنطقة الرابعة، وهناك قوات تابعة للرئاسة، وهناك قوات تحمل عدة تسميات للمقاومة، وهناك قوات تابعة للحزام الأمني المرتبط مباشرة بغرفة عمليات تدار من جانب دولة الإمارات، وذلك عوضاً عن خلق مؤسسة عسكرية واحدة، وكذلك مؤسسة أمنية واحدة.
2. كما كان من المنطقي والمفروض أن يتم إعادة تشغيل المؤسسات الحكومية، وتفعيل القوانين واللوائح المنظمة لهذه المؤسسات.
وفي الوقت الذي جرى فيه إعادة تشغيل المؤسسات في بعض المناطق أفضل مما هو في مناطق أخرى – حضرموت مثالاً – فإن بعض المناطق لم تعود فيها الحياة المدنية، بل صارت هذه المناطق طاردة لمواطنيها، أبين مثالاً. كما عانت عدن من مصاعب تدخلات مختلف الأطراف التي أفرزتها الحرب، وذلك كما بيَّنا سابقاً.
وإذا علمنا كم هو حجم ومستوى الفساد بمختلف أنواعه، الذي تفشَّى في كل مفاصل مؤسسات الدولة والمجتمع خلال فترة احتلال اليمن للجنوب، مما يعني بالضرورة البدء بخطوات هامة باتجاه الحدِّ من هذا الفساد، ولن نقول استئصاله جذرياً.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف، كان من المفترض القيام بخطوتين هامتين: الأولى استبعاد أهم القيادات الإدارية الفاسدة، التي ارتبطت لفترة طويلة بنظام وسلطة ما قبل تحرير مناطق الجنوب. أما الخطوة الأخرى، فهي البحث عن كوادر إدارية جنوبية مؤهلة ونظيفة لإحلالها محل القيادات الإدارية الفاسدة، وذلك من خلال تطبيق معايير إدارية وفنية وعلمية دقيقة عند اختيارها.
ومع أهمية هذه المسألة، إلا أنه من المؤسف القول بأن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث. بمعنى أن معظم القيادات القديمة قد احتفظت بمواقعها. كما أن من أُتي بهم للحلول مكان من استبعدوا لم يكونوا في المستوي المطلوب، إنْ لم يكونوا أسوأ من سابقيهم. ومن المؤسف كذلك القول بأن بعض القيادات الجنوبية التي شغلت مواقع سياسية وقيادية هامة في بعض المحافظات والمواقع الإدارية والعسكرية، قد عملت هي الأخرى على تكرار العمل بالآليات والطرق السابقة. كما أن اختيارها للكوادر المحيطة بها، لم يكن موفقاً بما فيه الكفاية.
3. من المعلوم بأن الخدمات الإنسانية أو المدنية، قد تعرضت للتدمير والعبث أكثر من سواها بسبب الحرب والتدخلات البشرية فيها، مما جعل من الصعوبة بمكان أن تقوم هذه الخدمات بوظائفها المعتادة.
والمقصود بالخدمات الإنسانية أو المدنية، كل تلك الخدمات المرتبطة بحياة الناس مباشرة وسير الحياة العامة للمجتمع. ويمكننا التمثيل فيما تشتمل عليه هذه الخدمات في الكهرباء والمياه والصرف الصحي، وتلك الخدمات التي تقدمها الموانئ البحرية والجوية والبرية (المنافذ)، وتوفير الوقود، كما تدخل خدمات التعليم والصحة في إطار هذه الخدمات.
وبما أن جلَّ هذه الخدمات قد مسّتها الحرب بالضرِّ بدرجات متفاوتة، وبما أنها ذات علاقة مباشرة بمصالح كل شرائح المجتمع، فإن ذلك كان يتحتم أن تعطى عناية خاصة لإصلاح تلك الإضرار التي تعرضت لها. إلا أنه من المؤسف أن هذه العناية وهذا الاهتمام لم يتوفرا، والدليل هو الواقع المرير الذي تعاني منه المناطق المحررة حتى الآن، بسبب ضعف أو حتى غياب كل أو بعض هذه الخدمات.
وإذا أردنا أن نبحث عن المسؤول أو المتسبب الأساسي لهكذا واقع، فإن الحكمة تشير إلى تلك الأطراف التي حددناها سابقاً، باعتبارها الجهات الممسكة بقيادة وإدارة مناطق الجنوب المحررة. وهذه الأطراف هي: التحالف العربي والحكومة الشرعية بقيادة الرئيس هادي، والسلطات المحلية، ومجموعات أو فصائل المقاومة. أما أين تكمن مسئولية كل طرف من هذه الأطراف المذكورة وبأي مستوى أو درجة، فيمكن تحديد ذلك على النحو الآتي:
1. فالتحالف العربي وخاصة الإمارات أولاً ثم السعودية لاحقاً، باعتبارهما الممسكتين بملف الجنوب، ويقع عليهما جزء أساسي من هذه المسئولية، وذلك بحكم وضع يدهما على الجنوب باعتبار ذلك من نتائج الحرب، وهي حالة نتجت عن خضوع (الجمهورية اليمنية) للمبادرة الخليجية، وقرارات مجلس الأمن الدولي المستندة إلى البند السابع. وهو ما يعني وقوع (الجمهورية اليمنية) تحت الوصاية الدولية. ولذلك فإن حالة وضع اليد على الجنوب من جانب التحالف العربي، قد ترتب عليها مسئولية في القانون الدولي، ومن هذه المسئولية إعادة الإعمار، وتوفير أهم متطلبات المجتمع من الخدمات المذكورة.
وإذا نظرنا إلى هذه المسألة من ناحية معيار “الربح والخسارة”، وعلاقة هذا المعيار بمجمل نتائج الحرب، فيمكننا القول بأن اهتمام وعناية “التحالف العربي” بمجمل الخدمات المذكورة، والعمل على حلها بطريقة نموذجية، سيحسب لصالح التحالف العربي وخاصة السعودية والإمارات. والعكس هو الصحيح، إذ أن معاناة الجنوبيين بسبب ضعف أو حتى غياب الخدمات، لن تكون لصالح سمعة التحالف العربي. وهو ما نراه ونسمعه. ذلك أن مقارنة الناس وواقعهم لما قبل وبعد الحرب، ليست لصالح التحالف العربي، وخاصة الدولتين المذكورتين.
وإذا علمنا بأن الموارد والإمكانيات المالية والمادية، لا تشكل عائقاً أو مانعاً لدى التحالف العربي – والإمارات والسعودية في المقدمة – في حل مشكلات الخدمات الإنسانية والمدنية المذكورة. وعليه، فكيف نفسر انعدام الحماس لدى التحالف العربي في حلِّ هذه المشكلات بشكل جذري في مناطق الجنوب المحررة؟؟
ولكن من جهة أخرى، يمكن تفسير عدم توافر الحماس عند كل من السعودية والإمارات في حل مشكلة الخدمات في مناطق الجنوب – وخاصة عدن – في الموقف السلبي من جانب حكومة شرعية الرئيس هادي، باعتبار أن تحسن أو حل مشكلة الخدمات سوف يخدم قضية الجنوب، وهو ما عبّر عنه أحد الوزراء الشماليين.
2. كما أن حكومة الشرعية بقيادة الرئيس هادي، لها علاقة بالوضع المأساوي للخدمات الإنسانية والمدنية المذكورة. وهذه العلاقة تحددتْ من عدة أسباب: أولها إن حكومة الشرعية تعتبر مسؤولة بحكم القانون عن تسيير أمور الحياة في هذه المناطق المحررة باعتبارها جزءاً من “الجمهورية اليمنية”. وثانيها أنها الجهة التي تمتلك الموارد القادرة على تسيير هذه الخدمات، وذلك من خلال الموازنة العامة للدولة.
وإذا كانت شرعية حكومة الرئيس هادي، قد استطاعت أن تفرض نفسها كمنافس ومشارك للسلطات المحلية في إدارة بعض المؤسسات في هذه المناطق المحررة، فإنها بالمقابل قد فشلتْ في توفير الموارد المالية لتسيير المؤسسات الخدماتية. فجزء كبير من الموظفين الحكوميين بدون رواتب لعدة أشهر، والطاقة الكهربائية في أسوأ حالتها، وخدمات المياه النقية ما زالت منقطعة عن جزء كبير من السكان، وخدمات الميناء البحري والمطار الدولي في عدن ما زالت متعثرة. وقسْ على ذلك بقية الخدمات.
3. أما الطرف الثالث الذي له علاقة بالوضع السيء للخدمات الإنسانية والمدنية في المناطق المحررة، فهي السلطات المحلية التي أُوكلتْ لها قيادة المناطق المحررة.
وحتى إذا قبلنا شكوى وتذمر السلطات المحلية، فيما يخص الافتقار إلى وجود موارد كافية أو موازنات تشغيلية لتسيير نشاطها الاقتصادي والخدماتي، فإن ذلك لا يعفيها من تحمُّل جزءاً من مسؤولية هذا الوضع المشار إليه.
وبشكل عام، يمكن القول بأن هذه المسؤولية تحددت من: أولاً أن هذه السلطات عندما قبلتْ المشاركة في إدارة المناطق المحررة، يبدو أنها لم تقف مطولاً لمعرفة صلاحياتها ومهامها، أي ما لها وما عليها. وذلك انطلاقاً من ضبابية مرحلة ما بعد تحرر معظم مناطق الجنوب من ناحية، واستمرار الحرب من ناحية أخرى.
كما أن هذه المسئولية تحددت من ثانياً، الاستخدام السيء للموارد المتاحة لدى هذه السلطات، حتى وإنْ كانت هذه الموارد محدودة. أما السبب الثالث، فهو أن هذه السلطات استمرت بالعمل بالأدوات والكوادر الإدارية القديمة الفاسدة. كما أن الكوادر التي تم إحلالها لم تكن في المستوى المطلوب، إن لم تكن أسوأ من سابقتها. وباختصار، يمكننا القول بأن هذه الوضعية السيئة للخدمات الإنسانية والمدنية، قد أثَّرتْ سلباً على سمعة قيادات المناطق المحررة، التي أتتْ من وسط نشطاء الحركة الثورية الجنوبية، عسكريين ومدنيين.
4. وأخيراً فإن الطرف الرابع والأخير، الذي له علاقة بهذه الوضعية السيئة للخدمات الإنسانية والمدنية، هي فصائل المقاومة بكل مسمياتها. أما كيف ذلك؟ فإن ذلك قد برر من خلال تدخلات هذه الفصائل في اقتصاديات وأعمال ليست من صلب مهامها، وذلك بدلاً من أن تتوجه نحو مهامها المعروفة، وهي في الأساس مهام قتالية وأمنية، مما خلق الكثير من العراقيل والصعوبات أمام مسئولية إدارة المؤسسات الخدماتية المشار إليها.
بعد انتهاء المعارك في معظم مناطق الجنوب، وبعد أن صارت محررة من الوجود الشمالي، كان الجنوبيون يأملون ويتوقعون أن تؤول الأمور أوتوماتيكياً إلى ضم كل مناطق الجنوب إلى بعضها لتشكِّل كياناً واحداً، بغض النظر عن التسمية الذي سيتخذها هذا الكيان. ولكن ما حدث، هو أنه تم الإبقاء على مناطق الجنوب المحررة معزولة عن بعضها البعض، وتم تكوين سلطات محلية جرى عزلها هي الأخرى عن بعضها البعض.. بل ويبدو أنه جرى التعمُّد بوضع العراقيل وخلق الصعوبات، كي يتم الحفاظ على وضعية العزلة والتقسيم والتجزئة، في الوقت الذي ظهرت مناطق الشمال متماسكة وموحدة إلى حدٍّ كبير، على الرغم من حالة الحرب التي تعيشها المناطق الشمالية. وهذه حالة شاذة وغريبة. ويبدو أن ما تحدثنا عنه عن واقع المؤسسات والخدمات الإنسانية والمدنية كانت واحدة من تلك العراقيل، وهي سياسة الهدف منها إشغال الجنوبيين بالجزئيات والتفاصيل، عوضاً عن التفكير والعمل من أجل استعادة دولتهم.

الفصل الثاني
أسباب وعوامل نشوء هذا الواقع
أولاً: استمرار الحرب
ثانياً: تعدد أطراف الحرب، وتعدد تنافر أهدافها
ثالثاً: غياب المشاركة الحقيقية للجنوبيين في إدارة المناطق المحررة

الفصل الثاني
أسباب وعوامل نشوء هذا الواقع
إذا أردنا أن نتعرف على أسباب وعوامل نشوء هذا الواقع، الذي يسود المناطق الجنوبية حالياً، فإننا يمكن أن نحددها في الآتي:
أولاً: استمرار الحرب:
إلى هذا التاريخ تكون قد مرت على هذه الحرب ما يقرب من ست سنوات. ويمكن أن نقسم هذه الحرب إلى مرحلتين زمنيتين: الأولى، هي تلك الفترة الزمنية التي تابعنا فيها المعارك على أراضي الجنوب، والتي استمرت من أواخر مارس 2015م حتى 14 يوليو 2015م. أما المرحلة الثانية فهي خاصة بتلك المعارك، التي تدور في مناطق الشمال، وهذه المرحلة تعتبر متداخلة مع المرحلة الأولى، فقد بدأت مع بداية المرحلة الأولى، إلا أنها ما زالت مستمرة حتى هذه اللحظة.
والمفارقة العجيبة بأن الجنوبيين استطاعوا أن يحسموا المعركة ضد “تحالف الانقلابيين” من دون أي دعم أو مساندة من الشماليين، ناهيك أن معركة الجنوبيين كانت في المطلق مع القوات الشمالية”. وعكس ذلك تماماً فان الشماليين لم يتمكنوا من فتح المعركة ضد “تحالف الانقلابيين” وهم شماليون مثلهم، ويقعون داخل مناطقهم إلا بمساعدة ودعم ومشاركة من جانب الجنوبيين.
أما لماذا الحرب مستمرة حتى الآن في المناطق الشمالية؟ فمن الممكن توضيح ذلك على النحو الآتي:
1. اكتشاف إن “تحالف الحوثيين” ما زال يمتلك ترسانة حربية قادرة على تهديد الدول المجاورة وخاصة السعودية.
2. إن التهديد الإيراني لم يتم تجاوزه، بدليل قدرة “الحوثيين” على الصمود ومواصلة الحرب بعد تعرض قواتهم لضربات شديدة ومؤلمة.
3. يقين التحالف العربي وخاصة السعودية استحالة عودة شرعية الرئيس هادي إلى قصر الرئاسة في صنعاء، أكان ذلك بحكم الواقع أو نتيجة لأي تسوية سياسية، مما يعني فقدان السيطرة على الوضع الذي سينشأ بعد انتهاء الحرب.
4. امتلاك الحوثيين صواريخ بالستية وطائرات مسيره بدون طيار، وضرب بعض مناطق السعودية والإمارات بالصواريخ البالستية.
ويبدو أن معركة الساحل قد أتت من هذه الاعتبارات، بالإضافة إلى جمود معارك إسقاط صنعاء من جهة مأرب أو من شمالها في بداية الحرب.
وحتى لا تتكرر حالة الجمود في المعارك المذكورة، فقد أُوكلتْ مهمة معارك الساحل للجنوبيين بمساندة طيران وبارجات التحالف العربي.
وقد برزت تساؤلات مشروعة عن أسباب أو مبررات إقدام التحالف العربي للاستعانة بالجنوبيين، لخوض معارك تقع خارج نطاق جغرافية موطنهم الجنوب؟
وإذا تماهينا مع المبررات التي تقول: بأن استمرار الحرب سببه عدم امتثال “الحوثيين” لقرارات مجلس الأمن ذات العلاقة، وعدم قبول مبادرات ومساعي ومقترحات مبعوثي السكرتير العام للأمم المتحدة المكلفين بمعالجة الأزمة في الجمهورية ليمنية وحلها، فإن السؤال الرئيسي الذي يقف أمامنا هو: كيف يتم التحاور مع مجموعة تم تصنيفها من قبل المجتمع الدولي بأنها “انقلابية”؟
وإذا تذكرنا بأن مبعوثي الأمم المتحدة لحل هذه الأزمة، قد عقدوا الكثير من اللقاءات بين الجانبين المتحاربين في كلٍّ من الرياض وجنيف والكويت والسويد، ناهيك عن اللقاءات غير المعلنة عنها. وقد فشلت جميعها في الوصول إلى حلول سياسية سلمية لحل هذه الأزمة، مما يعني ذلك بأن وقف الحرب مرهون بانتصار أحد أطراف الحرب. علما بأن هناك إشكالية في توصيف مفهوم “الانتصار”، وما له علاقة بهذا المفهوم من قبيل من هو المنتصر؟ ومن هو المهزوم؟
كما يمكننا أن نجد علاقة سببية بين استمرار الحرب، والواقع الراهن في مناطق الجنوب المحررة. وهذه العلاقة تتجلى في نظرة الأطراف الأساسية في هذه الحرب، من أنَّ للحرب أهدافاً متكاملة ومترابطة. وما دام هذه الأهداف لم تستكمل، فيعني ذلك بأنه لا يمكن القفز إلى تنفيذ ومعالجة جزء من نتائج هذه الحرب. ومن المؤكد بأن هذه الأطراف المشار إليها آنفاً، تنظر إلى تحرير مناطق الجنوب، باعتباره جزءاً من الأهداف الشاملة للحرب، التي لم يتم استكمالها بعد.
ثانياً: تعدد أطراف الحرب، وتعدد وتنافر أهدافها:
ومن عوامل وأسباب نشوء هذا الواقع، هو تعدد أطراف الحرب، التي تعددت معها أهداف هذه الحرب، بل وتنافرت حتى. ونقصد بأطراف الحرب هنا، تلك الأطراف التي تقف مقابل “الحوثيين”. وتتمثل في الأساس في التحالف العربي (السعودية والإمارات) وشرعية حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي، والطرف الجنوبي ممثلاً بـ”المقاومات”.
وإذا عدنا وتذكرنا أهداف كل طرف من أطراف هذا التحالف “تحالف إعادة الشرعية” التي ناقشناها سابقاً، فسندرك مدى تأثير تعدد وتنافر هذه الأهداف على واقع مناطق الجنوب المحررة الذي تعرفنا على ملامحه المتعددة.
فالتحالف العربي (السعودية والامارات) مصرٌّ بان هدفه لم يتغير، وهو “إعادة الشرعية” إلى قصر الرئاسة في صنعاء ولذلك يبدو أن خذلان التحالف العربي لمنطقتي “مكيراس” “وبيحان” الجنوبيتين في عدم مساندة الجنوبيين في طرد القوات الشمالية من هاتين المنطقتين، عبارة عن رسالة واضحة للمجتمع الدولي في سياق التأكيد على التمسك بـ “وحدة الجمهورية اليمنية” التي واقعياً لم يعد لها وجود.
ومع أن الجنوبيين متمسكون بهدفهم المتمثِّل باستعادة دولتهم بحدودها التي كانت عليها في 21/5/1990م، إلا إن مشاركتهم في إدارة المناطق المحررة، خلق الكثير من ردود الفعل الرافضة لتلك المشاركة، وخلق التباسات بصدد الهدف من تلك المشاركة.
ومن الممكن الغوص قليلاً في أسباب ودواعي ردود الفعل تلك، وكذا ملابسات هدف أو أهداف المشاركة، إذ يمكننا توضيحها على النحو الآتي:
1) عدم وجود ضمانات مكتوبة، أو عقد، أو اتفاق مبرم ومؤكد ومعلن بين القيادات الجنوبية والطرف الآخر الممثل في “التحالف العربي” أو الرئيس عبدربه منصور هادي، موضحاً بأن هذه المشاركة هي خطوة أولية في اتجاه استعادة دولة الجنوب عند توافر الشروط الملبّية لذلك.
2) إذا ما تجاوزنا الجانب الأمني الذي حدث فيه تحسن كبير وذلك بفضل الجنوبيين، فإن ماعدا ذلك لم يطرأ عليها أي تغيير ملموس، بل أن جوانب عديدة حدث فيها انتكاسات كبيرة، كمثال على ذلك الجوانب الخدماتية.
3) لم يترك للإدارات الجنوبية المعيّنة من قبل التحالف العربي، حرية إدارة وقيادة المناطق المحررة، بل وجدت العديد من الجهات المنافسة، وفي مقدمتها حكومة الشرعية المستوطنة في منتجع معاشيق.
ثالثاً: غياب المشاركة الحقيقية للجنوبيين في إدارة المناطق المحررة:
إثر تحرير معظم مناطق الجنوب بمشاركة بطولية من قبل الجنوبيين، فقد كان عشم الجنوبيين هو أن تتاح لهم إدارة مناطقهم، وإقامة سلطتهم عليها، لكن ما حدث لم يكن كذلك، وذلك كما أوضحنا في أكثر من مكان من هذه الدراسة. وجلُّ ما تحصل عليه الجنوبيون، هو ما يمكن أن نطلق عليه وضع هذه المنطقة أو تلك في عهدة هذا الشخص أو ذاك إلى حين.. وهذا الحين مرتبط بتوّلد أية ظروف أو أسباب أو مبررات تدفع في تغيير هذا الشخص أو ذاك.
وباعتبار أن عدن هي عاصمة الجنوب، ولذا فإن الجنوبيين ينظرون إليها بنوع من الاهتمام الكبير، حتى في صراعاتهم الداخلية، وتدريجياً، وعلى مدى عدة عقود، فقد صارت الغلبة السكانية في عدن للجنوبيين، وبشكل أساسي منذ دخول عدن في اتحاد الجنوب العربي في 18 يناير 1963م.
ومنذ يوم الاستقلال الوطني للجنوب في 30 نوفمبر 1967م اكتسح الريف مدينة عدن، ففقدت خصوصيتها التي عُرفت بها… وبهذا التحول صار لعدن هذه المكانة عند شعب الجنوب. إلا أن هذا الضخ السكاني الكثيف إلى عدن، لم يقابله تطور مناسب أو معادل في مختلف الخدمات أو مقومات البنية التحتية لمنطقة عدن. ويبدو إن ما تعيشه عدن من ضعف في خدماتها وبنيتها التحتية حالياً، هو نتيجة متوارثة بسبب الإهمال الذي عانت منه منذ الاستقلال الوطني عام 1967م.
وانطلاقاً من الأهمية الاستثنائية لعدن، أكان بالنسبة للجنوبيين باعتبارها عاصمتهم، أو بالنسبة لشرعية حكومة هادي، باعتبارها العاصمة الاقتصادية للجمهورية اليمنية، وفيها يقع أهم منفذين يطلان على العالم الخارجي – الميناء والمطار – وباعتبارها أيضاً عاصمة سياسية مؤقتة بدلاً من صنعاء، أو بالنسبة للتحالف العربي، أي يمكن القول بأن أهمية عدن لديه تتطابق مع أهميتها بالنسبة لحكومة هادي، إن لم تتفوق عليها. لذلك فقد كانت عدن ضحية لهذه الاعتبارات مجتمعة، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة. فكيف يمكننا فهم ذلك؟
فيما يخص إدارة عدن في مرحلة ما بعد تحريرها، يمكننا القول بأن عدن قد تعرضت لمعركتين شرستين: الأولى خاصة باختيار قياداتها السياسية والعسكرية والأمنية والإدارية بمختلف مستوياتها، والأخرى خاصة بتوفير الشروط الضرورية والأساسية لاستقرارها.
وقبل الخوض في هاتين المسألتين، لابد من التعريج على جزئية هامة، وهي مكونات “شرعية حكومة الرئيس هادي”. فقد تعرفنا على هدف هذا الطرف المتمثل في استعادة السلطة على كامل الجمهورية اليمنية، بمعنى عودة حكومة الرئيس هادي إلى صنعاء، أي استعادة المناطق التي تقع تحت سلطة “الحوثيين”، بما فيها صنعاء إلى سلطة حكومة الرئيس هادي.
ويبقى ضرورة معرفة مكونات هذا الطرف “شرعية حكومة الرئيس هادي”، ومن خلال التغلغل في هذا الطرف، نجد أنه يشتمل على المكونات أو الأطراف التالية:
1. مكَّون أو طرف يتزعمه الرئيس عبدربه منصور هادي، وهذا المكون أو هذه المجموعة هي جنوبية يجمعها عداؤها للجنوب وقضيته، وتنكرها لتاريخها وهويتها الجنوبية، كما تجمعها المصالح والمكاسب الذاتية، التي تحصلت عليها في سياق خدمتها السابقة في نظام علي عبدالله صالح.
2. المكًّون الآخر هي الأحزاب السياسية، وكلها شمالية التكوين والهوى، ومركز الثقل فيها هو حزب التجمع اليمني للإصلاح (توجه إخوان مسلمين)، وهو العدو الأول للجنوب.
3. أما المكًّون الثالث، فهي القوى المتنفذة الشمالية، التي استطاعت على مدى أكثر من ربع قرن من الوحدة، أن تنهب وتتقاسم ثروات الجنوب، وهو الهدف الأول لوحدة 22 مايو 1990م.
وما دام أطراف هذا المكون قد التقت وتوحدَّتْ في عدائها لقضية الجنوب، لذا حرّي بها أن تنقل عداءها هذا إلى ساحتي المعركتين المذكورتين، وهما معركة اختيار القيادات السياسية والعسكرية والأمنية والإدارية، ومعركة استقرار الجنوب بشكل عام، وعدن على وجه الخصوص.

وفيما يخص معركة اختيار القيادات الخاصة بمحافظة عدن، يمكننا تلخيص ما حدث فيها على النحو التالي:

1. بعد تحرير مناطق عدن وصمت هدير السلاح فيها، كان لابد من الالتفات أو التحوّل إلى ترتيب الوضع العام فيها. ومن المؤكد بأن العملية تبدأ من اختيار القيادات التي ستعمل على إدارة مختلف القطاعات والمرافق بمستوياتها المختلفة.
2. وبدلاً من أن توكل هذه المهمة للجنوبيين، فقد تولى مكون حكومة شرعية الرئيس هادي هذه المهمة، وقام بتعيين بعض القيادات أكان على رأس السلطة المحلية للمحافظة أو على مستوى الإدارات الموازية لها. وقد استغل في ذلك بعض الظروف الخاصة بالجنوبيين، مثل انشغال الجنوبيين في ملاحقة وتصفية فلول وبقايا “الاحتلال اليمني داخل عدن وعلى أطرافها وحدودها في بعض المحافظات الأخرى”. كما أن الجنوبيين كانوا يعتبرون أن إدارتهم لعاصمتهم عدن هو تحصيل حاصل، لا يمكن أن ينازعهم فيه أي طرف آخر. كما أن مصادر الإنفاق المالي، كانت واحدة من العوامل التي جرى استغلالها ضد الجنوبيين من قبل “حكومة الشرعية” باعتبار أن “حكومة هادي” هي من تمتلك هذه المصادر المالية، قانونياً وواقعياً من خلال الموازنة العامة.
3. وفي سياق فرض قيادات موالية “للشرعية، فقد تم تعيين الأستاذ نائف البكري محافظاً لعدن بعد تحريرها. ونائف البكري هو “جنوبي”، ولكنه عضواً قيادياً في حزب التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمين). وقد تم التمهيد لذلك خلال فترة الحرب في مناطق الجنوب وتم تسويقه باعتباره قائداً لمقاومة عدن. وقد ساهم إعلام الشرعية، إعلام حزب الإصلاح اليمني، الذي يبث من الرياض بفعالية، إلا أن الجنوبيين لم يقبلوا ذلك، فأُرغمتْ “الشرعية” و”التحالف” على تغييره، ومن ثم استبدل باللواء جعفر محمد سعد الذي استشهد لاحقاً في عملية تفجير إرهابيين في 6 ديسمبر عام 2015م.
وبعد شدَّ وجذبٍ بين السعودية وحكومة هادي من جهة، والإمارات من جهة أخرى، تم ترتيب الوضع القيادي في عدن بأن يكون اللواء عيدروس قاسم الزبيدي محافظاً لعدن وشلال علي شائع مديراً لأمنها. والحقيقة لا توجد تفاصيل بصدد لماذا؟ وكيف؟ قَبِلَ كلٌ من عيدروس الزبيدي وشلال علي شائع القيام بالمهام الموكلة إليهما. وسؤالنا هذا نابع من أن الرجلين مرتبطان وملتزمان لمشروع سياسي هدفه الأساسي: استعادة دولة الجنوب، بينما لا تأخذ شرعية هادي أو حتى دول التحالف بهذا الخيار.
وفي ضوء العلاقة المركبة بين كل من قيادة محافظة عدن المذكورة (عيدروس وشلال) من جهة، وشرعية حكومة هادي من ناحية أخرى، وفي ضوء العراقيل والمعوقات التي اختلقتها (حكومة هادي) للسلطة المحلية في عدن، ومنها علي سبيل المثال لا الحصر التدني الشديد في بعض الخدمات الضرورية، والانعدام الكامل للبعض الآخر من الخدمات، والتدخلات في سلطات السلطة المحلية، وخلق مؤسسات عسكرية وأمنية غير ذات صفة، والتمسك بالقيادات الفاسدة، فإن كل هذه المظاهر أو التجليات السلبية تؤشر إلى أن قبول كل من (عيدروس وشلال) لهاتين المهمتين، لم يقابلها ضمانات من قبل السعودية والإمارات وهادي فيما يخص مستقبل الجنوب، أو أن الأمر اقتصر على إشارات شفهية من قبل الطرف الأول للطرف الآخر. وحتى لو كان ذلك صحيحاً، فإن ذلك يعتبر خطأ سياسياً فادحاَ من قبل (عيدروس وشلال)، والأخطر من ذلك بالطبع، هو القبول بدون أية ضمانات أو تفاهمات حول مستقبل الجنوب.
وفي كل الأحوال، فإن الأحداث قد أفضت إلى تغيير اللواء عيدروس قاسم الزبيدي من موقع محافظ عدن، واستبداله بالأستاذ عبدالعزيز المفلحي، الذي لم يستمر في ممارسة عمله كمحافظ لعدن، وبالطبع فإن لكل حالة من هاتين الحالتين أسبابها… برغم المحاولات العديدة لعزل اللواء شلال من موقعه كمدير لأمن عدن، إلا إن ذلك لم يتحقق إلا في وقت متأخر. ولهذه الحالة أيضاً أسبابها.
وأما بخصوص الأسباب التي أدت إلى إقالة عيدروس قاسم الزبيدي من موقعه كمحافظ عدن، فيمكن إجمالها على النحو التالي:
1. بسبب تنافر الأهداف لكل الأطراف المشتركة في هذه الحرب، وهو ما تناولناها مفصلة في مكانٍ سابقٍ من هذه الدراسة.
2. خشية “حكومة الشرعية” استغلال الجنوبيين بواسطة المحافظ عيدروس الزبيدي من تحقيق هدفهم المتمثل في استعادة دولتهم.
3. تصادم أجندات “حكومة الشرعية” مع أجندات المحافظ عيدروس الزبيدي، التي تخدم أجندات وأهداف الجنوبيين.

 

الفصل الثالث
متطلبات الخروج من هذا الواقع
أولاً: إنهاء الحرب
ثانياً: الاستكمال السريع لتحرير ما تبقى من أراضي الجنوب
ثالثاً: أن يكون الجنوب شريكاً أساسياً وفاعلاً في إنهاء هذه الحرب، وقطف ثمارها
رابعاً: استعادة دولة الجنوب بحدودها قبل 22مايو1990
خامساً: إعادة إعمار الجنوب

الفصل الثالث
متطلبات الخروج من هذا الواقع
بعد أن تعرفنا في القسمين السابقين؛ أولاً على أهم ملامح الواقع الذي يمرُّ فيه الجنوب، وثانياً على الأسباب والعوامل التي أنتجت هذا الواقع، فإن السؤال الأساسي المطروح أمامنا الآن، هو كيف يمكن الخروج من هذا الواقع؟ أو ما هي المتطلبات الأساسية للخروج من هذا الواقع؟.

وللإجابة على هذا السؤال، يمكننا القول بأن أهم متطلبات الخروج من هذا الواقع يكمن في التالي:

أولاً: إنهاء الحرب:

من المؤكد بأن من أولى متطلبات الخروج من هذا الواقع هو إنهاء الحرب الدائرة والمستمرة منذ نهاية مارس 2015م، التي تدور في الغالب حالياً في مناطق الشمال، أو ما كانت تعرف سابقاً بالجمهورية العربية اليمنية. ولكن السؤال هو: بأية صورة أو بأي سيناريو يمكن إنهاء هذه الحرب؟.
وإذا استعدنا الأهداف التي وضعت من الطرفين المتحاربين، سندرك أن النصر كاملاً من أحد الطرفين، والاستسلام بدون شروط من الطرف الآخر هو السيناريو أو الصورة المثلى، التي ينبغي من خلالها إنهاء هذه الحرب، بمعنى أنه لا مجال للحلول الوسط. لأن الحلول الوسط تعني العودة عاجلاً أو آجلاً إلى ما كنَّا عليه قبل نشوب هذه الحرب.
ولكن من هو الطرف الذي ينبغي عليه أن يكسب هذه الحرب، ويحقق النصر، ويفرض الاستسلام على الطرف الآخر؟
من المؤكد بأن الطرف الذي نقصده هنا، هو ذلك الطرف الذي يتكون من التحالف العربي وشرعية الرئيس هادي والجنوبيين. ويعود سبب ذلك إلى أن هذه الدراسة، تناقش أساساً واقع الجنوب الذي تشكَّل بسبب هذه الحرب، وكيف الخروج من هذا الواقع.
وبالعودة إلى مجريات الحرب في مناطق الشمال، وبالنظر إلى الفترة الزمنية غير القصيرة التي تجاوزت ست سنوات، وبالنظر إلى تركيبة القوى العسكرية الشمالية التي تحارب تحت لواء شرعية هادي، وبالنظر إلى الإرث السياسي والاجتماعي والتاريخي لمجتمع الشمال، فإن ما نشاهده يثبت بقوة بأن هزيمة الطرف الآخر (الحوثيين) لن يتم مطلقاً من قبل تلك القوى العسكرية الشمالية المنضوية تحت شرعية الرئيس هادي، التي تتخذ من منطقة مأرب قاعدة انطلاق لها، وأسباب ذلك كثيرة نذكر منها ما يلي:
1. من المعروف أن مجتمع الشمال هو مجتمع قبلي عصبوي، بمعنى أن العلاقات القبلية هي التي تتحكم بتسيير مجريات الحياة اليومية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أكثر من خضوعه للقوانين الوضعية. ولذلك لا قرو إذا قلنا إن هذه العلاقات القبلية والعشائرية المتسمة بطابع العصبية بين مكونات هذا المجتمع، تعتبر عاملاً غير مساعد في تقدم القوى العسكرية الشمالية المنضوية تحت شرعية الرئيس هادي باتجاه القوى العسكرية الشمالية الأخرى (الحوثيين) وبالتالي تحقيق أي نصر عليها. وهو ما يثبته واقع مشاهدتنا للمعارك بين الطرفين المذكورين.
2. وباعتبار أن المجتمع الشمالي، هو مجتمع قبلي عشائري، فإن من أهم سمات هذا المجتمع هو أنه يحب الغنيمة والسلب والنهب. ومن المؤكد بأن كل الحروب تولّد مغانم متنوعة.
لذلك، فإن استمرار هذه الحرب تعتبر مفيدة للطرفين، كما أن وقف هذه الحرب تعتبر خسارة للكثيرين من المشاركين في هذه الحرب. وتتعاظم الفائدة والخسارة عندما نعرف أن الممول المباشر لهذه الحرب هي الدول الخليجية، وخاصة السعودية والإمارات.
3. صار من المؤكد للجميع – وبضمنهم تلك القوى الشمالية المنضوية تحت شرعية الرئيس هادي – بأن الواقع الذي سينُتج بعد انتهاء الحرب، لن يكون ذلك الواقع الذي كان قبل نشوب هذه الحرب.
ومن المؤكد بأن ما يعني القوى الشمالية المشار إليها في هذا الواقع الجديد، هو الجنوب، الذي يفترض أن يكون أول المستفيدين من هذه الحرب من خلال إعادة تشكُّله وتموضعه، بغض النظر عن التشكُّل والتَّموضع الذي سيتخذه الجنوب، وهو ما يشكِّل خسارة للشماليين في الجانبين (الانقلابيين)، والذين مع شرعية هادي، وسبب ذلك معروف، ولا يحتاج إلى شرح أو توضيح.
4. إذا تذكرنا بأن الهدف الظاهري التي نشبت بسببه هذه الحرب، قد تمثَّل في إعادة شرعية حكومة الرئيس هادي إلى دار الرئاسة بصنعاء. ولكن التدقيق فيما حدث منذ بدء الحرب، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، بأن هذا الهدف صار من الماضي. فعودة الرئيس هادي إلى صنعاء، لم يعد مقبولاً من كلّ النُّخب الشمالية بمن فيهم الشماليون المنضويون تحت شرعية هادي.
إذن في ظل هذه المعطيات المذكورة آنفاً، كيف يمكن إنهاء الحرب من خلال سيناريو النصر لطرف وهزيمة الطرف الآخر، أو إعلان استسلامه.
وإذا اقتنعنا بأن هزيمة تحالف صالح والحوثيين لن يتم عن طريق اجتياح جبهات القتال وصولاً إلى صنعاء، وسقوطها بيد الطرف المنتصر، إذن كيف يمكن تحقيق الانتصار على هذا التحالف، الذي قلنا أنه شيء لابد منه؟ أي ما هي السيناريوهات الممكنة لذلك؟
هناك سيناريوهان:
الأول: هزيمة الحوثيين:
وذلك عن طريق اجتياح جميع جبهات القتال وصولاً إلى صنعاء، وسقوطه بيد التحالف. وقد أثبتت كل مجريات المعارك صعوبة تحقق هذا السيناريو، لأن تركيب الجيشين: “جيش الحوثيين”و”الجيش الوطني” كلاهما من الشماليين، وقد أثبت التاريخ السياسي اليمني “الشمالي” أن الشمالي لا ينتصر على أخيه الشمالي بسبب المبادئ.

الثاني: الحصار والخنق:
المقصود بذلك الاستيلاء على أهم المنافذ الحيوية: الجوية والبرية والبحرية. وإذا صح ما نقوله، فإن الإسراع في الاستيلاء على ميناء الحديدة، وتسليم منفذ الوديعة إلى الإدارة المحلية في محافظة حضرموت تعتبر مهمة عاجلة وضرورية. إلا أن تطور الأحداث قد أسقطت أيضاً هذا السيناريو، وذلك عندما تم وقف معارك الساحل الغربي، ومن ضمنها وقف معركة إسقاط الحديدة، وقد تم تشريع ذلك من خلال إبرام اتفاق إستكهولم بين الحوثيين وحكومة شرعية هادي، وبضغط من المجتمع الدولي.

ثانياً: الاستكمال السريع لتحرير ما تبقى من أراضي الجنوب (وادي حضرموت ومكيراس وبيحان):

 

بالعودة إلى التكوين الجغرافي والتاريخي للجنوب المعروف حتى 22 مايو1990 م، سنجد أن منطقتي بيحان الشبوانية، ومكيراس الأبينية ما زالتا في قبضة الشماليين، والحقيقة لا نعرف ما في الحكمة من قبل التحالف العربي عندما توقف عند هاتين المنطقتين، ولم يساند المقاومة الجنوبية في هاتين المنطقتين من أجل تحريرهما.

وفي كل الظروف فإن عودة هاتين المنطقتين إلى الجنوب يمكن أن يتحقق عن طريقين:
الأولى: عن طريق المقاومة الجنوبية، ولكن يبدو أن ذلك بحاجة إلى قرار من التحالف العربي، وليس بالضرورة بمساعدة طيران التحالف.
الثانية: عندما تضع الحرب أوزارها وتكتب نهايتها بتفاهمات دولية وإقليمية بغض النظر عن هذه النهاية، التي لا نعلم كيف ستكون. وهنا لابد أن يتم تبادل المناطق بين الطرفين جنوبيين وشماليين، فيتم بذلك استعادة المناطق الجنوبية (مكيراس وبيحان) وغيرها، وذلك مقابل الأراضي الشمالية التي وقعت تحت سيطرة الجنوبيين خلال الحرب، وهي المناطق الواقعة في الساحل الغربي، والمناطق الشمالية الواقعة في شمال الضالع.

ثالثاً: أن يكون الجنوب شريكاً أساسياً وفاعلاً في إنهاء هذه الحرب وقطف ثمارها:
من الممكن الدخول إلى هذا الموضوع من خلال الإجابة على طرح مجموعة من الأسئلة من قبيل:
1- ما هو جوهر الحالة الراهنة التي تعيشها هذه المنطقة؟ أو ما هي الأسباب الحقيقية للحرب الدائرة منذ مارس 2015م؟.
2- ما هو العامل الرئيسي، الذي أدَّى إلى إخراج الحوثيين، أو ما يطلق عليهم بـ”الانقلابيين” من غالبية مناطق الجنوب، وحشرهم في مناطق الشمال.
3- من هي القوة العسكرية الرئيسية، التي ساهمت في انتزاع أهم المناطق الشمالية في الساحل الغربي وشمال الضالع، وصولاً إلى محاصرة مدينة الحديدة الساحلية؟.
ومن المؤكد بأن هناك العديد من الأسئلة يمكن طرحها في هذا السياق أيضاً.
وإذا عدنا إلى ما سطّرناه في القسمين الفائتين من هذه الدراسة، سنجد أن الجنوب كان وما زال هو حجر الزاوية. فالجنوب هو الذي شكّل جوهر الحالة الراهنة، كما أن الجنوب من خلال مقاومته، كان هو العامل الرئيسي في طرد القوات الشمالية من أراضي الجنوب. كما أن الجنوب ومقاومته هو القوة الرئيسية التي حررت وطردت القوات الشمالية من المناطق المذكورة آنفاً.
وفي ضوء هذه الإجابات أو الحقائق الدامغة، فإن المنطق والواقع يقول، بضرورة أن يكون الجنوب شريكاً وفاعلاً أساسياً في إنهاء هذه الحرب، وقطف ثمارها.

رابعاً: استعادة دولة الجنوب بحدودها ما قبل 22 مايو 1990م:

إذا طرحنا السؤال من أول وجديد، وسألنا عن الجوهر أو السبب الحقيقي للمشكلة التي نحن بصدد مناقشتها الآن؟ وإذا حاولنا أن نجيب على هذا السؤال وقلنا: إن السبب الحقيقي وجوهر المشكلة التي نحن فيها، يكمن في انقلاب الحوثيين أو أنصار الله على سلطة الرئيس عبدربه منصور هادي، باعتباره رئيساً منتخباً ومعروف أن انقلاب أنصار الله تجلى في مجموع الأعمال التي مكنت حركة أنصار الله من السيطرة على مقالب السلطة وقد تمثل ذلك في:
1- الزحف نحو العاصمة صنعاء لألاف من أنصارها بما يعني احتلالها والسيطرة عليها.
2- لقد كان ذلك الزحف إلى صنعاء والسيطرة عليها في 21 سبتمبر 2014م من قبل حركة أنصار الله.
3- وفي فبراير 2015م أعلنت حركة أنصار الله الإعلان الدستوري.
وبعد هذه الإجابة، هل يمكننا القول بأننا توصلنا إلى الإجابة الشافية والنهائية لتساؤلنا عن السبب الحقيقي للمشكلة الراهنة التي نحن بصدد مناقشتها؟
يبدو لنا أن الإجابة مازالت غير مكتملة والسبب هو أن هذه الإجابة سوف تستدعي سؤالاً آخر، يتمحور حول سبب أو دواعي قيام الحوثيين بهذا الانقلاب، بالتحالف الوثيق مع عدوهم اللدود الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وذلك قبل أن ينقلبوا عليه، ويقوموا بإعدامه.
للإجابة على هذا السؤال، يمكننا العودة إلى مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد في صنعاء في الفترة من 18 مارس 2013 إلى 25 يناير 2014، وقد شارك في هذا المؤتمر (556) مشاركاً، يُقال أن نصفهم جنوبيون، وذلك بواسطة (13) مكوّناً، وكان نسبة مشاركة الحراك الجنوبي نحو (15%) من إجمالي مشاركة الجنوبيين، أي أنهم شكلوا (84) شخصاً.
وأيًّ كانت مخرجات ذلك المؤتمر، فقد تضمنت إعادة تقسيم الجمهورية اليمنية وفق: “حق تقرير المصير”، أو كما جاء في مخرجات المؤتمر “حق تقرير المكانة السياسية وفق نظام الحكم…الخ”، أو تقسيم الجمهورية اليمنية إلى إقليمين “شمال” و”جنوب”، أو تقسيم الجمهورية اليمنية إلى ستة أقاليم، ولأن كل هذه التقسيمات لم تروق للشماليين بكل مكوناتهم، فقد اعتبروا أن ذلك سيؤدي في آخر المطاف إلى خروج “الجنوب” من تلك العلاقة التي جمعته مع “الشمال” وذلك كما تأكد في تحالف علي عبدالله صالح مع الحوثيين، وتشجيعهم لمد سلطتهم إلى صنعاء، وما نتج عنه من تطورات لاحقة، أدت إلى تمددهم إلى الجنوب، ومن ثم اندلاع الحرب في 26 مارس 2015م.

خامساً: إعادة إعمار الجنوب:
يجري الحديث دائماً عن إعادة إعمار مناطق الجنوب التي دُمِرت خلال هذه الحرب، أو تلك التي تعرضت للدمار نتيجة أحداث سابقة، كما هي الحال عند احتلال أنصار الشريعة والقاعدة لجزء كبير من محافظة أبين.
وفي كل الأحوال، فإن إعادة إعمار كل ما تم تدميره خلال مختلف الصراعات والأحداث، تظل مهمة ملحة وضرورية. أما بالنسبة لمظاهر الدمار، فقد تجلٌت في المجالات التالية:
1. ما تعرض له المواطنون من تدمير لممتلكاتهم الخاصة من مباني وعقارات وأراضي زراعية وغير زراعية.
2. ما تعرض له الجنوب من دمار في بنيته التحتية، ومؤسساته الاقتصادية وغيرها.
3. وكان أغلى وأثمن ما قدمه شعب الجنوب قوافل الشهداء والجرحى والأسرى وأصحاب العاهات. وهؤلاء جميعاً لابد من تعويضهم على ما خسروه، وذلك بحسب كل حالة.
4. لم يكن الدمار مقصوراً على النواحي المادية فقط، ولكن تعدى ذلك إلى النواحي النفسية، المتمثلة في الصدمات والعُقد النفسية، وفي حالة الانفصام والاختلال العقلي التي تعرض لها العديد من الأشخاص.
أما فيما يخص موجبات إعادة الإعمار، فيمكن أن تأخذ الاتجاهات التالية:
 إعادة إعمار كل ما تم تدميره، أكان فيما يخص الملكيات الخاصة، أو المؤسسات الحكومية، أو غير الحكومية.
 إعادة إعمار البنية التحتية من طرقات وكهرباء واتصالات ومياه وغيرها، مع الأخذ بعين الاعتبار تصميم وتطوير البنية التحتية بطريقة حديثة.
 يجب أن يرافق إعادة الإعمار، إعادة تخطيط المدن الرئيسية الحالية، وذلك من خلال وضع مخططات جديدة لمدن جديدة، باعتبار أن المستوطنات الحالية قد استنفذت عمرها الافتراضي.
وفيما يخص تعويض الأشخاص الذين تضرروا في مختلف الأحداث والصراعات السياسية، فيمكن أن تأخذ الاتجاهات التالية:
 رعاية أُسر الشهداء، ويمكن أن يأخذ هذا الاتجاه: إعادة تنظيم دائرة أسر الشهداء، وإحالة الجانب المالي لأسر الشهداء إلى صندوق الضمان الاجتماعي بعد إعادة تقييم مرتباتهم، كي تتناسب مع المستوى المعيشي السائد.
 استكمال معالجة الجرحى الذين مازالوا يعانون.
 النظر في حالة الذين أصيبوا بعاهات جراء الأحداث التي تمنعهم عن القيام بأي عمل. وعندما تتأكد الإعاقة، فيجب أن يتم تحديد رواتب ثابتة لهؤلاء.

 

الخاتمة:
1. بعد انقلاب (أنصار الله) على حليفهم علي عبدالله صالح، ومن ثم تصفيته جسدياً، يكون (أنصار الله) قد خلقوا واقعاً جديداً في معظم المناطق التي يسيطرون عليها، وهي المناطق التي تقع ضمن ما كان يسمى بـ”الجمهورية العربية اليمنية”.
2. إن (أنصار الله) لم يكتفوا بخلق هذا الواقع فقط، بل صاروا هم المتحكمون والمسيطرون الوحيدون على هذه المناطق، وبدون منازع.
3. إن المسألة لم تقف عند ما ذكرناه سابقاً، ولكن العملية انقلبت بشكل جذري، وذلك عندما صار المجتمع الدولي ينظر إلى ما حدث في مناطق “الجمهورية العربية اليمنية” باعتباره واقع يجب التعامل معه كما هو، أي أن (أنصار الله) تحولوا من “انقلابيين” يجب اجتثاثهم، إلى “مشاركين” فاعلين، يجب عدم تجاهلهم عند البحث عن حل للمشكلة اليمنية.
4. من المؤكد بأن هناك حالة من الاستغراب، أو عدم اليقين من هذا التحول الجذري تجاه (أنصار الله) من قبل المجتمع الدولي – وخاصة الولايات المتحدة – إلا أن ذلك يمكن تفسيره إلى أن الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص، تبني سياستها على المصالح الخاصة بها من ناحية، وعلى اللعب على المتناقضات بين الآخرين، وبالتالي استغلال هذه المتناقضات لصالحها.
5. إن الحدود الزمنية لهذه الدراسة تقف عند أولاً وقف المعارك بين “الجنوبيين” و”الشماليين” في المناطق الجنوبية، ومن ثم البدء بترتيب الأوضاع الإدارية في مختلف مناطق الجنوب وفي المقدمة “عدن”، كما تقف حدودها الزمنية ثانياً عند تأسيس “المجلس الانتقالي الجنوبي”، باعتباره كيان سياسي وطني، يناضل شعب الجنوب من خلاله نحو استعادة دولته، وبحدود 22 مايو 1990 من المهرة شرقاً إلى باب المندب غرباً.
6. وبتأسيس “المجلس الانتقالي الجنوبي”، يكون الجنوب قد مرق إلى مرحلة سياسية جديدة، إلا أن هذه المرحلة تقع خلف المرحلة التي عالجتها هذه الدراسة.

أخبار ذات صله