fbpx
كقطرة عطر في مرحاض!

كقطرة عطر في مرحاض!

محمد عبده العبسي

Absi456@gmail.com

إنه نفس الاستقطاب الكريه يقرر مصير شعب. نفس الصراع منذ الستينيات حول الأشخاص الخردة ومراكز القوى، لا حول البرامج وقيم العصر، وكأن قدر اليمنيين أن يصطفوا إما مع أحمد وإما حميد؛ مع صالح أو علي محسن؛ الإصلاح أو الحوثي؛ الوحدة أو الانفصال؛ إيران أو اللجنة الخاصة؛ الوضع “الحاصل الناصل” أو الصوملة!

يمكن القبض على هذه الملاحظة في جميع نقاشات الرأي العام في اليمن: فالذين أدانوا، أو دافعوا عن، ظهور قائد الحرس الجمهوري مع الرئيس على مأدبة إفطار، أكثر مئات المرات من أولئك الذين أدانوا جريمة تفجير مجلس عزاء بمدينة جعار، قتلت 45 يمنياً وجرحت مثلهم. فأين الأولى من الثانية؟ وما أهمية حدث متعلق بشخص بالنظر إلى جريمة وغدة أدعى للذعر كونها الأولى من نوعها في مجتمع آخذ في التآكل بسرعة؟

نفس الشيء: إن الذين أدانوا، أو دافعوا عن، ظهور قائد الفرقة الأولى مع الرئيس أثناء زيارة خاطفة لقطر، أو ظهور توكل كرمان مع مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي، أو عناق عبدالوهاب الآنسي بنجل الرئيس السابق.. كل هؤلاء المتعلقين بأشخاص، أو ضد أشخاص، أكثر بكثير من الأسوياء الذين أدانوا إهانة 25 مليون يمني بحملة التبرعات بمساجد الإمارات. ولا يلام الإماراتيون، وإنما حكومة الوفاق التي إن لم تطلب هي ذلك، كما تدعّي، فالأحرى أن تذكر نظيرتها بأعراف الدول التي تقضي أن تكون المساعدات من حكومة لحكومة، لا من شعب لجيب حكومة.

إليكم مَثَلاً خامساً: إن الذين أدانوا، أو برروا، زيارة د. محمد المتوكل للرئيس السابق، واعتبروها خيانة لشهداء الثورة، لم يتفوهوا بكلمة واحدة عند زيارة علي القيسي، المعين محافظاً لحجة، بقرار جمهوري معطل صادر عن رئيس وحكومة وصلا إلى السلطة بعد، وبفضل، ثورة الشباب! وحتى الدكتور المتوكل، وكم أنا حزين عليه، الذي نقل مؤخراً عن الرئيس السابق أنه سيقف مع الدولة المدنية، وبدا مُصدقاً! (نكايةً برفاقه الإسلاميين على الأرجح)، هو ذاته المتوكل الذي اتصل به صالح قبل 10 سنوات للعودة إلى المؤتمر في عزّ قوة الحزب الحاكم، فرفض، وهو ذاته السياسي الصريح الذي كتب في ذروة انشغال نظرائه قادة المشترك بحواراتهم مع صالح، مقالاً لاذعاً بصحيفة “الوسط”، استوحاه من قصة شعبية لرجل يتلذذ بالخداع والكذب، قاصداً الرئيس، ولما يزل عنوانه صالحاً: “صدقتَ يا خُضعي”!

لا أضر بنا من انتقال استقطاب السياسة إلى حقوق الإنسان: فالطرفان اللذان أدان أحدهما وكذّب الآخر، تعذيب 4 شبان في صعدة على يد مليشيا الحوثيين، لم يتفوها بكلمة واحدة عند تعذيب جنود أمن مركزي، في نفس الأسبوع، 4 لاجئين إثيوبيين نصبوا خيام اعتصامهم منذ شهر أمام مصلحة الجوازات، دون أن تُلتقط لهم صورة، أو يعيرهم الإعلام اليمني اهتماماً. وبينما وضعت جميع منظمات حقوق الإنسان التي هاجمت الحوثي ودافعت عنه، القُطن في أذنها، عدا المرصد اليمني، تجاهل الشباب المعتصم في الساحات أناساً مشرّدين نصبوا الخيام مثلهم تحت الحر والمطر، تأثراً بهم، وإيماناً بقوة سلاح الاحتجاج السلمي!

أحد انعكاسات ذلك بدا جلياً في أداء أولئك الذين شغلونا بالأمن القومي، دون السياسي، حد توهم أننا سنستيقظ من النوم واليمن مثل سويسرا، فلا تنصت إلا بحكم قضائي، لا اعتقالات تعسفية، لا أحد فوق القانون أو النقد. أين هم الآن؟ لقد ابتلعوا ألسنتهم بمجرد إقالة عمار صالح، وكأن العلة شخص عمار (مثل عشرات القضايا)، لا الجهاز وانتهاكاته ووضعه القانوني وعلاقته بالمواطن وأمن البلد الخارجي. الآن يستحضرون اسم الجهاز لمزاً فقط عند الحاجة لنصب مشنقة في “فيسبوك”، أو قذف كاتب وناشط مخالف بتهمة الأمن القومي، غافلين كسائر الأغبياء عبر التاريخ مثلاً أن صخر الوجيه -نائب حميد الأحمر في اللجنة التحضيرية للحوار- هو بعينه من يصرف للأمن القومي ميزانيته التشغيلية!

نحن في بلد يدفع المرء للانقلاب على نفسه وماضيه، أو ينقلب عليه المجتمع. فالصحفيون الذين حبسوا وضربوا ونكِّل بهم كالخيواني والمقالح وسبيع وآخرين، هم المتهمون بالعمالة للنظام السابق الآن! وممن؟ ممن خُتن ورضع وفُطم واشتد عوده في حضن النظام السابق! والإعلاميون الذين تذمروا لسنوات من القوى التقليدية (مشيخية ودينية وعسكرية)، ليس أمامهم خيار اليوم -إن أرادوا تقديم برنامج تلفزيوني موجه لعامة اليمنيين- سوى أحد الأمرّين: إما العمل بسُكاتٍ في إحدى القنوات التالية (سهيل، العقيق، آزال، اليمن اليوم، المسيرة)، وإما العمل بأجر أقل وجهد أكبر في قناة يملكها رجل مدني كـ”السعيدة”، وهي أنجح قناة يمنية، ولكن عليه وقتها تحمّل تذاكي و”شيطنة” حامد الشميري، أو الالتحاق بـ”يمن شباب” دون محاولة معرفة كيف نزل مع الثورة وسيم القرشي بالبرشوت.

انظروا حولكم: ما الذي تغير؟ الحصانة التي شملت قتلة 33 عاماً ماضية، وليس فترة الثورة فحسب، عاجزة عن إخراج الصحفي عبدالإله حيدر ومعتقلي الثورة من حبس صُمم للقتلة واللصوص! والمهمشون السود المضطهدون قروناً همْ هم: “أخدام” قبل الثورة وبعدها، داخل الساحة أو خارجها! والحلاق والجزار والقشام وجميع المنتقصين اجتماعياً وتاريخياً بتسميتهم “مزاينة”، همْ هم قبل وبعد، بل إن نكبتهم بعد أكبر.

ماذا حققت الثورة؟ لا تقولوا لي إنها نصف حكومة ونصف درزن مستشارين لرئيس بدأ بقوة واقتدار؟ لا تقولوا إنها الرأي العام الإمعة الذي جعل ثوار الأحزاب وبعض الشباب يتهمون، أثناء الانتخابات الرئاسية التي نافس هادي فيها نفسه، رفاقهم في الساحة بالعمالة للرئيس السابق، لممارستهم حقهم في مقاطعة الانتخابات. فلما ترشح أحمد شفيق في انتخابات مصر قالوا “لا لعودة الفلول”، وكأنهم صوتوا لتشي جيفارا، وليس لنائب رئيس الجمهورية لـ17 عاماً!

اليمن هي اليمن كعمياء تخضب مجنونة، كما قال المثل. قبل أن أضطر لترك عملي كمحرر أدبي في صحيفة “الثورة”، في 2008 أو 2007، كنت أحب السير على قدمي مساء من جولة الساعة بالحصبة إلى البيت، فأمر بمنزل الشيخ عبدالله يرحمه الله، ومرافقوه يلعبون الدمنة أمام البوابة، إلى أن أصل على بُعد 200 متر بمحوى وعشش وبيوت الصفيح التي يسكن فيها المهمشون السود على ضفتي السائلة المنتنة. كنت ألحظ دائماً، وبشكل عفوي، ضوء لمبة “سهاري” حمراء اللون، ينبعث من أحد بيوت الصفيح القريبة من الشارع. ليلة أمس؛ مشيت من نفس الطريق، فرأيت الدمار برغم الظلام يشخص ببصره نحوي، واستنشقت الرعب مع كل ذرة هواء في الحصبة. أظن النمل أيضاً نزح عن الحصبة، لا البشر وحدهم. توقعت أن أرى عدداً أكبر من المرافقين والمسلحين، وحزنت حين مررت بمساكن المهمشين فلم أرَ ضوء اللمبة الوحيدة التي كانت تنقر حدقتي عيني من بعيد! تذكرت أمي وأختيّ وأخي عادل، وكدت أبكي لا أدري لم. ربما دمرت في حرب الحصبة! ربما السبب انقطاع الكهرباء أو لعلها انتحرت بعد الثورة. وصلت البيت مغموماً ويائساً على غير العادة، وفي داخلي قناعة متنامية -أرجو أن أكون مخطئاً بشأنها- أن التغيير في اليمن أشبه بقطرة عطر تقع دائماً في المكان الخطأ: في مرحاض!