fbpx
سراب الوحدة! / طه بافضل
شارك الخبر
سراب الوحدة! / طه بافضل

 

من يتغنون بالقومية, أو الخلافة الإسلامية الراشدة والأمة الواحدة, هم أشد الناس عداوة لتقسيم البلاد العربية والإسلامية, هكذا يزعمون, و”أبناء المحافظات الشمالية” في اليمن, أشد منهم في التعبير عن حنقهم وتذمرهم كلما سمعوا ألفاظاً مزعجة ك”الانفصال” و “فك الارتباط”. بل حتى “القضية الجنوبية” و”فيدرالية اليمن” أصبحتا محل انزعاج آخر, أما ما يحبونه وتتغنى به ألسنتهم هي كلمة “الوحدة الاندماجية” لا غير!
العجيب, أن أهل الشمال اليمني, ومن حالفهم من الجنوب, كانوا المساهمين الأوفر حظاً في ضياع “المكتسب العظيم”, عندما قامت حرب 1994م, لم تقم هكذا جزافاً, بل سبقتها, فصول سيناريوهات دموية, أدت في الأخير إلى إعلان الرئيس علي سالم البيض-الذي جاء مهرولاً للوحدة الاندماجية- إلى فك الارتباط وانفصال دولة الجنوب عن دولة الشمال. كلٌ ساهم في التسهيل والتدعيم للزحف على الجنوب “الكافر”, بحسب فتوى دينية يتردد صاحبها في نسبتها إليه, تردداً يفضي إلى تخبط مشين للنخب العلمية في قراءة الواقع, فما بالك بالساسة الذين باعوا الأخوة والشهامة, ورضوا بمئات آلاف من الريالات, وبضع مترات من الأرض, أو صفقات مشبوهة على حساب مكتسبات عظيمة كان يمكن حينها تلافي الكثير من الانزلاقات نحو هاوية التمزق والتشرذم واللا عودة, كما هو حاصل الآن.
ليس بالإمكان أبدع مما كان, الكل كان في سكرته سادراً, نحن أهل الجنوب, كنا نترقب رحيل “الشيوعي”,كم كانت فرحتنا عظيمة بالمعلبات والفواكه الرخيصة التي دخلت علينا بعد توقيع اتفاق الوحدة, بعدما كنا نراها حلماً أو صوراً في مجلات الخليج يسيل لعابنا عند رؤيتها, كانت تلك البضائع الرخيصة شراكاً وقعنا فيه, غير أننا كنا في غاية التهيئة له; فالحنق والضيق بلغ أوجه من حكم شمولي أرق مضاجعنا, وأغلق علينا أبواب النهضة من كل جوانبها إلا نهضة “ديكتاتورية البلوريتاريا”, فلو كان ثمة استفتاء في الجنوب قبل خوض “البيض” غمار الوحدة الاندماجية, لكان تصويت الجنوبيين بنعم, لقد كان همهم الخلاص الخلاص.
كما قيل; “عند عتبة الغيب تقف الطاقة البشرية”, وتركن للحظة عابرة بكل مآسيها وآلامها, فلو قيل أو كشف الغيب لأهل الجنوب أن المسألة ليست وحدة حقيقية, بل هو صراع وتربص بين فئتين ظلتا تتقاتلان فترة من الزمن, كل منهما يحلم أن يبتلع الآخر, فشلت القوة العسكرية, وجاء دور الاحتفاء السياسي, نُسِخَت له ألف تمثيلية ومسرحية, الغبي منهما من صدق أن تمثيليات الساسة كأنها الحقيقة التي لا مناص من العيش في كنفها, والتعايش مع مدلولاتها, الذين هرولوا لوحدة اندماجية, كانوا أصحاب “كفاف مادي” لم يرتقوا في عيشهم, وينهضوا; فلا شركات عملاقة, ولا احتكار للتجارة, ولا أرصدة مهولة, حتى الذين تعاونوا وباعوا القضية, قصاراهم أنهم نالوا آماناً من التصفية الدموية, وبيتاً في صنعاء مع سيارة وراتباً مغرياً والأمل يحدوهم ليحصِّلوا أكثر مما حصَّلوا! وهيهات لهم ذلك, غير أن أوفرهم حظاً, من استطاع أن يبني لنفسه تجارة متواضعة, ومشاريع متعددة, لكنها لا يمكن أن تناطح مكتسبات المنتصر المستكبر.
“الجنوب العربي” أُرهق كثيراً, وأُنهك فصاح مذعوراً: “يكفيني إرهاقاً”, وآثر السكوت والصمت حتى اندلعت شرارة الحراك السلمي, ويوم أن اندلعت كانت تأمل فقط في تصحيح المسار وتعديل الوضع قليلاً, حتى هذا المطلب بَخِل الشماليون به عليهم, ويح ظلم البشر لإخوانهم البشر! والمستهجن أكثر; أن تصبح النخب العلمية الشرعية من العلماء والدعاء بين غائب عن الوعي بالواقع, أو علم بتفصيلاته, لكنه خائف أن تصله يد الاستكبار, فتذهب عليه بمصالحه الدعوية والخيرية فلم يحرك ساكنا غير بيانات واهية, وكلمات يحاول البعض من خلالها, إلقاء التبعة عن كاهله, لكن الأسوأ من أقوام صدقوا ومايزالون يصدقون كذبة الوحدة, والأفظع أن يُؤصلوا رأيهم “البشري” بنصوص عامة من الحكم الإلهي المقدس,فوصل بهم الحال أن جعلوا “الوحدة اليمنية” أصلاً عظيماً من أصول الإيمان, مع أنها عمل بشري قابل للخطأ والصواب, ولو كانت كذلك كما يقولون, لوحدة مع دول الخليج وخصوصاً أرض الحرمين خير للجنوبيين من وحدة مع الشماليين الذي اعتصرهم الجهل والمرض والتبعية الإمامية, الذين يختلفون معهم حتى في المذهب الفقهي.
العجيب, أن ترى بأم عينيك, واقعاً معكوساً وصفحات مقلوبة, فيأتي الشيخ المعمم ليقول لك, وبكل صلف: “دعك من هذه إنها توافه الحياة الدنيا وانتظر موعود الرب في الآخرة” مع أن التغيير والإصلاح وانتشار المعروف بين الناس أفكار ومبادئ من صميم عبادة البشر لخالقهم, وأن لا يرضوا بعبادة بشر مثلهم, أو يسكتوا على ظلمهم وجورهم واحتكارهم وعنصريتهم واستكبارهم.
وتحضرني كلمات أختم بها المقال لعبد الرحمن بن باديس:” والأمير شكيب..يصرح في خطابه بعدم الوحدة السياسية بين شعوب العرب المغلوبة على أمرها وشعوبهم المستقلة, لأنه- وهو أكبر مدافع عن العرب والإسلام في الغرب والمشرق- رجل عملي ليس بخيالي, وسياسي مجرب خبير يعرف ما يقول ويفرق بين العمل المثمر والقول الفارغ الذي يثير الضجيج, ليُنْسب صاحبه إلى الغيرة والحماس, وإن كان يثير الغبار ويكدِّر الجو في نواح أخرى”.
كاتب يمني
bafde170@hotmail.com

“السياسة الكويتية”

أخبار ذات صله