fbpx
ندوة عدن والبحر والتاريخ الجديد!

ندوة عدن والبحر والتاريخ الجديد!

الجغرافيا تستطيع أن تكون حضوراً بوسائل شتى ولكنها دوما بلا أجنحة أما التاريخ فهو ذاكرة المكان والزمان !

بدعوة كريمة من الدكتور محمود السالمي رئيس مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر حضرت صباح اليوم أعمال الندوة العلمية الأولى التي نظمها المركز في فندق سماء الامارات على شط بحر العرب بخور مكسر تحت عنوان : (دور عدن البحري عبر التاريخ ) برعاية وحضور وزير التعليم العالي الدكتور حسين باسلامة والأستاذ الدكتور الخضر ناصر لصور رئيس جامعة عدن وبحضور الدكتور محمد عقلان نائب رئيس الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي والدكتور جمال الحسني مسجل عام جامعة عدن ونخبة متميز من الباحثين والباحثات في حقل الدراسات التاريخية والثقافية، وقد تشرفت الندوة بحضور الضيف العزيز الاستاذ نايف المهندس مدرس مادة الذكاء الاصطناعي بجامعة الملك عبدالعزيز بجده.

وقد حرصت على حضور هذه الندوة النوعية لكونها قد صادفت هوى في قلبي كونها تأتي في إطار ما بات يعرف بحركة ( التاريخ الجديد) التي ازدهرت منذ مطلع القرن الماضي في الدوائر الأكاديمية والفكرية الاورأمريكية بوصفها انعطافة منهجية ثورية معاصرة في نسق المعرفة التاريخية وهي الحركة التي طالما وقد انشغلت في تتبعها منذ مدة من الزمن وقد سنحت لي الفرصة للحدث عنها في المكلا قبل أشهر في ورشة نقاشية نظمها مركز حضرموت للدراسات والبحوث التاريخية والنشر بدعوة من رئيسه الصديق العزيز عبدالله الجعيدي وهو بالمناسبة شقيق مركز عدن البحثي، ورغم أن ورشة المكلا كانت عن المنهج النقدي التاريخي عند أبن خلدون الإ أنني حاولت أغتنام الفرصة لتسريب بعض الأفكار عن مدرسة التاريخ الجديد ومناهجها المعاصرة .
وحينما يكون عنوان الندوة هو ( دور عدن البحري عبر التاريخ) فهذا يجعلها في قلب التاريخ الجديد بوعي أو بدونه! فماذا نقصد بالتاريخ الجديد؟

‎عرّف المؤرخ الإنجليزي هاري المر بارنز (التاريخ الجديد) بأنه: “طريقة العرض التاريخي التي تحاول بصفة عامة أن تعيد صياغة تاريخ الحضارة ككل بوصفه على حد قول الاستاذ روبنسون – كل ما نعرفه عن كل شيء فعله الانسان أو فكر فيه أو أمل فيه أو حلم فيه.
ويعد الأمريكي جميس هارفي روبنسون، الذي ورد اسمه في هذا التعريف أول من استخدم مصطلح التاريخ الجديد إذ كان قد نشر كتاباً في نيويورك في عام 1912 يحمل أسم (التاريخ الجديد) جاء فيه: “ان الانسان ليجد عزاءاًً وراحة عقلية في ترك أي محاولة لان يعرف التاريخ وأن يقنع باعتبار: مهمة المؤرخ أن يكشف أي شيء عن ماضي الجنس البشري يعتقد أنه شائق أو مهم يستطيع أن يضع يده على مصادر المعلومات عنه”.

 
‎‎وقد أوضح الاستاذ بارنز أن ما هو جوهري في هذا التعريف لمصطلح التاريخ الجديد أنه يؤكد على البحث عن الأصل (Genetic Orientation)، كالبحث عن أصل الانسان وتطوره، وأصل التنظيمات الحضارية وتطورها. ومن هنا، فانه يرى أن على المؤرخ الذي يسعى لكتابة التاريخ على وفق هذا التصور الجديد أن يكون لديه إلمام كامل بطبيعة الانسان وعلاقته ببيئته الطبيعية والاجتماعية الامر الذي يمكنه من معالجة مشكلة إعادة صياغة الاوجه المختلفة لتاريخ الحضارة. وفضلاً عما تقدم، فإن على المؤرخ أن يتلقى تدريباً مناسباً لتحليل التطور في النظم، وهو التطور الذي يحفظ سجل سيطرة الانسان تدريجياً على بيئته المادية ونجاحه المضطرد في تنظيم الجهود التعاونية لبني جنسه. وهنا يؤكد الاستاذ بارنز، أن هذا النوع من التاريخ الحضاري يتطلب من المؤرخ الطموح الذي يسعى للعمل في ميدانه أن يكون مزوداً بمعلومات اساسية من “علم الاحياء، وعلم الاجناس البشرية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع. كذلك، فان عليه أن يتدرب تدريباً خاصاً في العلوم الاجتماعية، وفي بعض فروع العلوم الطبيعية، وعلم الجمال، …”.

 
‎‎ان هذه المفاهيم الدقيقة والواضحة التي قدمها الاستاذ بارنز عن التاريخ الجديد، تفرض علينا أن نقر له بالدور الريادي في تأسيس وتطوير هذا التوجه الجديد في كتابة التاريخ. وقد أقر له بهذا الدور الريادي جاك لوغوف في كتابه المهم التاريخ الجديد بقوله: “يحيل نعت (الجديد) على (حركة التاريخ الجديد) التي انطلقت في سنة 1912 في الويات المتحدة، وخاصة إلى هـ. أ. بارنز (H. E. Barnes) الذي نشر في سنة 1919 كتاب علم النفس والتاريخ .

 
‎‎وعلى الرغم من هذا الاقرار الصريح بأن ريادة حركة التاريخ الجديد قد انطلقت في الولايات المتحدة ومنذ عام 1912م، فإن لوغوف يقول في هذا البحث ما نصه: “يحتل التاريخ الجديد موقعاً متميزاً في هذا الحقل المتجدد للعلوم. هناك (تاريخ جديد) وأول رواده هنري بار الذي استعمل هذه التسمية منذ سنة 1930م. ومن المعروف أن هذا المؤرخ هو من المؤرخين الفرنسيين البارزين. ويبدو أن الذي حمل لوغوف على تجاوز جهود رواد التاريخ الجديد في الولايات المتحدة وتركيز الانظار على أعمال المؤرخين الفرنسيين هو الاعمال الكبيرة التي قدموها في مجال التنظير للتاريخ الجديد في اطار مدرسة الحوليات، وان كانت الدقة العلمية تفرض عليه ان عطي لكل ذي حق حقه.

 
‎‎ان مصطلح (حوليات) هو الكلمة الاولى من اسم المجلة الفرنسية التي أسسها مارك بلوخ ولوسيان فيفر: Annales de L’histoire Economique et Socials([8]) وهو يعني في اللغة العربية مجلة “الحوليات الاقتصادية والاجتماعية”. وقد أسست في عام 1929.
‎‎وقد لاحظ أحد المؤرخين أن منهجية هذه المجلة لا علاقة لها بمنهجية كتب الحوليات التي تعرض وقائع التاريخ على وفق التدرج الزمني للسنين كما فعل الطبري وغيره من المؤرخين المسلمين عندما ألفوا كتبهم أو كما جرى العديد من مؤرخي العصور الوسطى في أوربا على أتباعه. ان منهجية مجلة الحوليات الاقتصادية والاجتماعية عمل يقوم على اساس عرض الاحداث عرضاً أفقياً بينما تقوم منهجية مؤرخي الحوليات على اساس عرض الأحداث عرضاً عمودياً على وفق تدرج الأحداث زمنياً.

 
‎‎وبالنظر لأهمية الجهود التي قدمها أصحاب مدرسة الحوليات في البحث والتنظير لحركة التاريخ الجديد منذ تأسيس مجلتها في سنة 1929 وحتى الوقت الحاضر، فإننا سنعرض في المبحث الآتي أهم الأفكار والمباديء التي سعت هذه المدرسة لعرضها والدفاع عنها: التاريخ الجديد ومدرسة الحوليات:
‎‎تتلخص المباديء والافكار التي دعت مدرسة الحوليات إلى ضرورة الالتزام بها في كتابة (التاريخ الجديد) في أربعة مباديء سنتولى عرضها بايجاز في النقاط الآتية: الفهم الشمولي للتاريخ:
‎‎أوضح لوسيان فيفر وهو أحد مؤسسي مدرسة الحوليات أن الفهم الشمولي للتاريخ يتطلب من المؤرخ أن “يهتم بكل الفعاليات البشرية وكل ما في الإنسان أو يعتمد على الإنسان أو نتيجة الانسان أو يجريه الإنسان مما له أهمية في وجود الإنسان ونشاطه وأذواقه وأزيائه”.
‎‎ومن أجل تحقيق هذا الهدف دعى فيفر المؤرخين إلى عدم تقييد أنفسهم بالوثيقة كما كانت تستخدم من قبل المؤرخين التقليديين في تدوين الحدث المرتبط بالتاريخ السياسي، وأكد “على أن التاريخ الجديد يجب أن يحرر نفسه من الوثائق وما تفرضه من تحديدات، وأن عليه أن يستعمل كافة ما يستعمله الإنسان: اللغة، والعلامات، وأدلة الريف، ونظم الحقول، والاساور والقلائد، وكل مصدر اخر يمكن الحصول عليه. وباختصار، فان عليه ان يكون منفتحاً لكل مكتشفات “طرق العلوم الأخرى، كالجغرافية، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس. وعلى المؤرخ في نفس الوقت أن لا ينجرف في النزعات التي برزت في العشرينات والثلاثينات – من القرن العشرين – في تقسيم نفسه إلى عدد من التخصصات (كالتاريخ الاقتصادي وتاريخ الأفكار، وغيرها) التي يسير كل منها في طريقه الخاص، ففصل التاريخ عن مضماره الاجتماعي هو أسوأ من عبث، ومن المؤكد أنه كان مضللاً. وعلى أي حال، فان البحوث المتخصصة في التاريخ الاجتماعي أو الاقتصادي تبرز قيمتها بالدرجة الأولى في قدرتها على كشف واجبات جديدة، وسبل جديدة، في معالجة التاريخ ككل.

 
‎‎في ضوء ما تقدم، فقد أكد فرنان بروديل – وهو من أبرز رواد التاريخ الجديد – أن التاريخ يجب أن يكون شمولياً أو لا يكون، “وهو يحتاج إلى العلوم الاجتماعية الأخرى، وقادر على تبني اشكال التفسير الجديدة التي تبتدعها هذه العلوم وتكييفها لأغراضه الخاصة. والتاريخ قادر بدوره على تقديم ما تفتقر إليه العلوم الأخرى، وهو البعد الزمني، الذي يمثل خصوصيته، ولايهم في نظر بروديل ان أتهم البعض التاريخ بأنه (امبريالي) يريد ابتلاع كل شيء”.

 
‎‎وقد أشار العروي إلى أن مفهوم الشمولية كما يعرضه بروديل وغيره من مؤرخي مدرسة الحوليات مستوحى من علماء الانثربولوجيا وبخاصة من الباحث الفرنسي مارسل موس الذي يرى أن “المجتمع، أي مجتمع، يكون في الحقيقة وحدة عضوية، فلا يمكن تجزئته الى قطع مستقلة تدرس كل واحدة منها على حدة. ان في قلب كل جزئية وظيفية يجب البحث عن مفعول الظاهرة الشمولية”. وقد لاحظ المفكر العربي عبدالله العروي أن “كل باحث يدعي اليوم أنه متأثر بمدرسة الحوليات وأنه يكتب تاريخاً شمولياً. ومع ذلك نراه يؤرخ لمنطقة أو لحقبة، وهذه بالطبع ضرورة لا مفر منها”) وهو الامر الذي فعله بروديل حينما جعل من عالم البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي على أيام فيليب الثاني – وهذا هو عنوان الكتاب الذي أصدره عام 1949 – نموذجاً تطبيقياً لكتابة التاريخ بحسب المنهجية الشمولية التي يدعو إليها. وقد توصل بروديل من دراسته المستفيضة لهذا الموضوع إلى وجود شخصية تاريخية لهذا البحر. وقد تجلى ذلك في وحدة النظم الاقتصادية والسياسية التي سادت في معظم الدول التي قامت على شواطئه .

 
‎‎في ضوء ما تقدم، فقد استنتج أحد الباحثين، أن الأفق التاريخي (الشمولي) عند بروديل كانت تسيطر عليه (موضوعة الحضارة) وهي تعني عنده: “مجموعة تاريخية يشملها نمط واحد من نظم الحياة المادية والروحية، والسمة الأولى للحضارة هي أنها حقيقة واقعية ذات مدة مفرطة في الطول، وسمتها الثانية هي أنها مرتبطة أوثق الارتباط بمكانها الجغرافي”.

 
1. الأزمنة الثلاث في التاريخ الشمولي:

 
‎‎يتحدث بروديل عن ثلاثة أزمنة في الزمان التاريخي وهي: الزمان الجغرافي والزمان الاجتماعي والزمان الفردي. وفي اطار هذا الفهم تبرز “امكانية لكتابة ثلاثة تواريخ ثانوية أو فرعية تصب كلها في ذات التاريخ الأصلي (الكلي) أو (الشامل): أولها تاريخ جغرافي (يهتم بدراسة الطبيعة أو المكان كتاريخ)، ثانيها: تاريخ ظرفي اجتماعي (يعنى بدراسة المجتمع والحضارة)، ثالثها: تاريخ حدثي (سياسي). ولا يعني هذا الاخير عودة مقنعة إلى المنهج التاريخي القديم، بل التأكيد على أن ثمة شروطاً تحدد الحدث نفسه وتسمح بامكانه”. وقد خلص بروديل من كل ما تقدم إلى أنه قد أنجز في كتابه (البحر الابيض المتوسط والعالم المتوسطي على عهد فيليب الثاني) تاريخاً متعدداً لكنه واحد، لأن حركته تسير من البنية، أي من شروط لامكان إلى الحدث.
هذه الخلاصة الموجزة عن التاريخ الجديد تكفي الإطلالة عن ندوتنا العلمية الأولى عن دور عدن البحري عبر التاريخ إذ يمكننا تطبيق نظرية المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل في الأزمنة التاريخية الثالثة في هذه الدراسة التاريخية للمدينة البحرية العربية التي تشكّل البحر شخصيتها التاريخية عبر المدى الطويل وكان لها تاريخها الاجتماعي في المدى المتوسط وتاريخها السياسي الفردي في المدى القصير.

 
وقد حفل برنامج الندوة بجملة من الأوراق العلمية المتنوعة في ثلاث جلسات متواصلة منذ الثامنة والنصف صباحاً استهلها الدكتور الاستاذ حسين باسلامة وزير التعليم العالي بكلمة قصيرة بعدها أستأنف ألدكتور جمال إدريس رئاسة الجلسة الأولى بأربع أوراق بحثية كانت أولها للزميل الدكتور محمد بن هاوي باوزير الذي أعتذر عن الحضور لوفاة شقيقته في حضرموت رحمة الله تغشاها وعظم الله أجرهم فيها.

 
والورقة الثانية للباحثة طالبة الدكتوراه رانيا خالد محمد والثالثة للدكتور علي صالح الخلاقي
والرابعة ورقة الدكتور طه حسين هديل .

 
وفسحت الفرصة للمناقشات والتعقيبات
وقد تشرفت برئاسة الجلسة الثانية من أعمال الندوة التي زخرت بخمسة أوراق بحثية متميزة للباحثين والباحثات د عبدالحكيم عراشي والباحثة أفراح الحميقاني والباحثة فايدة الكثيري والباحث د محمد بلعيد والباحث الدكتور علي زبير. في الجلستين أستمتعنا بالاستماع الى خلاصات بحثية جدير بالقراءة والنقد والتقييم. للأسف لم أتمكن من مواصلة أعمال الجلسة الثالثة لانشغالي بظرف طارىء مع خالص اعتذاري! فالف مبروك لمركز عدن للدارسات وادارته الممتازة على إنجاز هذه الندوة العلمية في هذه الظروف البالغة السوء والقسوة .

 
وتهانينا الحارة للباحثين والباحثات الذين سعدت بالتعرف عليهم من خلال افكارهم وبحسب القاعدة السقراطية ( تكلم حتى أرك ) فقد تشرفت اليوم برؤية باحثين واعدين وباحثات رائعات نتمنى لهم / لهن التقدم والازدهار في رحاب الدراسات التاريخية!

ختاما أقول وانّا أكتب انطباعي عن ندوة عدن والبحر والتاريخ تداعت الى ذهني هذه الخاطرة التي نشرتها قبل سنوات بعنوان : من أنت ياعدن؟! جاء في مطلعها

أنا الأسم الذي أغتربت معانيه
أنا الروح الغريب عن الجسد
أنا الذات الذي لا ذات فيها
أنا الجسد الممزقة خلاياه
بين أنياب الرزايا والتعب

في أول التكوين نار الله كنت
مدفئة الكون بعصر الثلوج
حامية البحار من التجمد
والتراب من الجدب
أنا الأرض التي بدأت مسيرتها
بركان غضب !

أنا القمر المكسر ضوءه
بين أشواق الصبايا
والمنايا والطرب
كنت فردوساً بروض الله
عاصم للقاطنين ملاذ آمن
للقادمين من الجهات
الهاربون من الظلام
والخائفون من الطغاة
فأمسيت جحيماً
لا يعز عن الطلب

ورمضان كريم وكل عام وأنتم بخير وسلام
واليكم بعض وقائع الندوة