fbpx
حكايتنا الخاصة مع حاتم علي…

امين اليافعي

بالنسبة لمعظم جيلي من أبناء منطقتنا (ظبة) ربطتنا علاقة خاصة ، علاقة فريدة، مع أعمال المخرج السوري الكبير حاتم علي، علاقة ينبغي أن تروى، وربما تصلح أن تكون مادة خام لعمل روائي أو سيّري ستكون له بعضاً من ملامح مدرسة الواقعية السحريّة، مع يقيني أن هناك آلاف القصص الخاصة لدى جيل عربي معين أرتبط وثيقا بأعمال المخرج.
والحكاية باختصار: ألتحقنا بأول ثانوي في العام 1998، وبالنسبة لنا نحن اللذين نشأنا بين أشجار القات، فإن تعاطي القات في هذا السن أصبح في تلك الفترة جائزاً، وفق شروط صارمة (في فترة لاحقة سيتم تخفيض شروط السن والتخزينة إلى أدنى حد). في نهاية الصف الثاني ثانوي بدأتُ في تعاطي القات، وسيُصادف أن تكون هذه المرحلة من أعمارنا سريالية للغاية بالنسبة لي ولكثيرين.
ففي تلك الفترة اغتنى أحد أبناء المنطقة، وهو قريبٌ بالمناسبة، ماطورا كهربائياً وصحن استقبال القنوات الفضائية (طبق الدِش)، كان هذا حدثاً فريداً من نوعه في منطقتنا، وقد كان هذا الحدث كفيلاً بأن يُغير من تأريخنا حتى وكأن تاريخنا جديداً بدأ لتوه ينساح في وعينا، وبلا هوادة.
ومن المصادفات التي ساعدت في تدشين بداية هذه اللحظة التاريخية، هي أن مالك الماطور كان يملك مجلسين منفصلين فوق بعض، كل مجلس في دور، وكل مجلس كان له رواده.
في مجلس الدور الأول، جَلَس كبار السن لمتابعة الأخبار. لم يُشكّل الانتقال من متابعة أخبار العالم عن طريق إذاعة البي بي سي إلى القنوات الإخبارية حدثا ثوريا كبيراً في منطقتنا، وأكثر ما في الأمر هو أن الوسيلة اختلفت، مع بعض البهارات التي يقدمه التطور.
خُصص المجلس في الدول الثاني لكل أولئك الشباب والمراهقين الذين لم تكن الأخبار تُشكل له أي مغزى أو اهتمام وكانوا يتوقون إلى رؤية عالم مختلف. كانت البداية صعبة وقاسية ومثيرة، لقد بدأنا أول ما بدأنا في متابعة برامج على شاكلة “يا ليل يا عين” وبرامج مايا دياب. لم تكن هناك تجارب أجرأ كتلك التي كان بعضٌ من شباب المدن يخوضونها في مراهقتهم، وكما افشى لي لاحقاً أصدقاء، لكن لكم أن تتخيلوا أننا نحن أبناء القرية أول ما نفتتح تواصلنا مع العالم لن يكون إلا عبر مايا دياب وصبايا بيروت، بيروت التي بمجرد أن تُلفظ تتبدى بلا ملابس داخلية على حد وصف الكاتب التونسي الجميل عبدالدايم السلامي، فما بالك بأن تُرى بالعين المجردة، تُرى من قاع قرية في بلاد الواق الواق. كانت هذه التجربة بالنسبة لنا كمراهقين عاصفة، لم ينفع معها كل المحاولات المضنية والشاقة لإيجاد حد أدنى من التوازن والتوفيق، حتى مع الاستعانة بأقوى أنواع القات اليافعي!! (وأتذكر أنه من يومها بدأ نعتنا بـ”جيل القنوات الفضائية”، للتعريض بنا، حيث بدأت بعض مظاهر السلوك تتغير، فهذه الثلة التي تعيش الأجواء البيروتية بكامل رونقها كان من الطبيعي أن تُصاب بالأرق والسرحان والانفصام، ولا تلتزم بعادات وقواعد صارمة في مجتمع كان لا يتفهم ولا يتسامح مع من أراد البقاء في السرير بعد الساعة السادسة صباحاً. وفي الحقيقة، وللأمانة أقولها، في تلك الفترة كنا “جيل مايا دياب” ).
في عام 2000، سيتم بث مسلسل “الزير سالم” على قناة الإم بي سي، المسلسل الذي سيتابعه الناس بشغفٍ من الخليج إلى المحيط، وبالنسبة لقريتنا سيكون له تاريخ خاصٍ. كان هذه المسلسل هو الوحيد الذي أستطاع – بجدارة فائقة يُحسد عليها – أن يعيد لنا بعض التوازن، ويحررنا من حالة سريالية كنا نعيش في أتونها. ولو أستخدمنا عدّة الجابري، فقد كان هذا المسلسل التاريخي الملحمي – في تلك المرحلة – أفضل روشته للتوليف بين الأصالة والمعاصرة ، أي أن نكون من خلاله، وفي نفس الوقت، أصيلين. وربما كان هذا أكثر ما نحتاجه، بعد تجارب دامية نفسياً للإطلال على العالم.
تحولت كثيرٌ من المساحات الشاغرة في قريتنا، جدران وصخور وأشجار، إلى فضاء مستباح لتدوين أسماء الأشخاص والأماكن والأحداث، وعبارات وأبيات شعرية مقتبسة من المسلسل. هناك من أطال شعره تشبها بأبطال المسلسل، ومن يومها شاعت كنية “أبو اليمامة”، وألقاب مثل: الزير، الجليلة، كليب، البسوس، المهلهل، جساس، هجرس، جحدر، بقصد المدح أو الذم.
تغيرت طريقة الأحاديث ولغتها المستخدمة، فلم يعد غريبا ولا نافراً أن تسمع عبارات فصيحة في منتصف الكلام، في مواقف مختلفة، وعلى طول اليوم، أو أن تسمع الكثيرين وهم يحاولون قرض شعرا هجينا بين العامي والفصحى.
أحد الأصدقاء الذي تعلّق قلبه بالجليلة، وصار يُمارس حياته وكأنه يعيش معها قصة حب واقعية، حتى طالته سخرية الكثيرين، واتهموه بالجنون (الربشة). هذا الصديق بعد أن عاش مواسم طويلة بالهجرة إلى جليلته السماوية المتخيلة، بكل جوانحه، اقتنع في لحظة ما بالهبوط إلى الدنيا تحت شرط أن يجد فتاة تُحقق مواصفات جليلته… ثم بعد سنواتٍ طويلة من البحث والتنقيب في طبقات النساء، وبعد أن بلغ من عمر الزواج عتيا حسب معايير قريتنا، حتى شارف من هم بعمره على أن يصير لهم أحفاد، ارتبط بإمراه، ومع ذلك، وبعد سنوات طويلة، لم يُسامحه أحد على أحلامه، فزفر الناس زفرة واحدة: “صام صام، ففطر بـ….”
شكرا حاتم، لقد أنقذتنا من ورطة الفخ البيروتي.
لتنعم روحك بالسلام والسكينة الأبدية