fbpx
تحليل- انعكاسات تغيّر الخطاب الدولي على مستقبل قضية الجنوب
شارك الخبر

يافع نيوز – سوث24 – د. إيمان زهران*
شكّل  الخطاب الأول للمبعوث الأممي الرابع إلى اليمن “هانز غروندبيرغ” أمام مجلس الأمن، إعادة تقييم للملف اليمني، وذلك عبر التطرق إلى مشاركة الجنوب في العملية السياسية، إذ حمل الخطاب في صياغاته ومضامينه العديد من الدلالات ذات التوجهات الجديدة للمجتمع الدولي، حيث بات يُدرك أهمية إعادة ترسيم مشهد “الحل السياسي الشامل” عبر إشراك كافة الفواعل المنخرطة بالصراع بالعملية الأممية. وهو ما يُعد خطوة مرحلية نحو إعادة النظر في مدى ثقل المجلس الانتقالي الجنوبي، وأدواته الدبلوماسية في مشاورات السلام المستقبلية، وذلك بالنظر إلى رؤية المبعوث الأممي حول “عدم تجاوز تمثيل الجنوب”، مثلما تم في كافة المسارات الأممية السابقة.
إشكالية الجنوب
إحدى أهم جوانب “المسألة اليمنية”، ما يتعلق بالوضعية الجنوبية، إذ تضفى التفاصيل والتطورات النوعية بتلك الإشكالية، المزيد من التعقيد والتشابك بالأزمة اليمنية، فالحديث عن جنوب اليمن – في ظل التطورات المرحلية الأخيرة بعد تولي الانتقالي-  أصبح يتجاوز ما عرف تقليدياً بـ “القضية الجنوبية” التي تشكلت كرد فعل على فشل سياسات الإدماج التي انتهجها النظام السابق، ليتسع المجال، ويصبح الجنوب بمثابة دائرة أخرى للصراع في اليمن يمكن أن يطلق عليها “المعضلة الجنوبية”، والتي تتشابك في بعض أبعادها مع المعضلة المناظرة في الشمال، ليشكل كلاهما مشهد كامل لحالة التأزم والتفكك بالدولة اليمنية.
الجدير بالذكر، أن “إشكالية الجنوب”، تستدعي معها العديد من الإشكاليات النوعية والتي يمكن تلخيصها فيما يُعرف بـ “متلازمة الجنوب”، حيث تشتمل على عدد من المحددات، أبرزها:
– إشكالية الهوية / العصبية: فعند الحديث عن “كينونة الجنوب”، من المهم النظر إلى أنماط الهوية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي تشكل نمط قد يبدو مغاير عن المسار الشمالي، لتبرز الإشكالية فيما إذا كان من المفترض أن ينعكس هذا التمايز على العلاقة مع الشمال في إطار يمن واحد أم يمنان!!
– إشكالية القواسم المشتركة: إذ برغم التمايز الواضح بين جنوب وشمال اليمن، إلا أن هناك تشابهًا في أعراض الأزمة على الجانبين مقابل التمايز الذي تصدره بعض من القوى الجنوبية كدافع لسيناريو الانفصال، حيث أنّ الجنوب كان دولة مؤسسات والشمال قبيلة في شكل دولة، في حين أنّ جذور هذه الإشكالية هي جذور تتعلق بميل الشخصية اليمنية إلى فكرة “العصبية” على الجانبين.
تخاذل السابقين
عكست سياسات “المرونة الهشة” التي اتبعها المبعوثون الأمميون السابقون، آثارا سلبية على إطالة أمد الصراع في اليمن، فضلا عن الانقسام البنيوي في هيكل الملف اليمني، وذلك في إطار عدد من الممارسات المغلوطة، تَمثل أهمها في التالي:
– اعتمدت أطروحات المبعوثين الدوليين على إعادة توصيف الوضعية التفاعلية لـ “جماعة الحوثيين”، وذلك عبر الانتقال من دائرة العمل الميليشاوي، إلى دائرة العمل السياسي والحزبي، فضلا عن خطأ الوسطاء الدوليين بالمساواة التفاوضية بين الحوثيين والشرعية اليمنية مع تجاهل الفاعل الجنوبي، إذ ساعد هذا الأمر في وجود تردد دولي في الضغط على الحوثيين، إذ لازال يُنظر إليهم كـ “طرف سياسي”.
– على الرغم من الكثير من الملاحظات على ما تضمنته “المرجعيات الدولية” الثلاث للحل السياسي في اليمن، والمتمثلة في: القرار الأممي 2216، المبادرة الخليجية، مخرجات الحوار الوطني اليمني، إلا أنّ الوسطاء الأمميين فشلوا في إنجاز أي استحقاق يمكن التعويل عليه بعملية التسوية السياسية، بما في ذلك الملف الإنساني.
– عكست مداولات وتحركات المبعوثين الأمميين الأجندات المتباينة والاختلافات المتقاطعة للدول الكبرى والصاعدة بالإقليم، إذ لم يكن هناك نهج موضوعي ومحايد لإدارة ملف التسوية السياسية في اليمن.
– من الأخطاء المتكررة، الانتقال دوماً لفكرة “الحلول الجزئية”، وذلك بعد التعثر في إيجاد “حل شامل” للملف اليمني، فعلى سبيل المثال: انطوى اتفاق ستوكهولم على غياب كامل لفكرة “الحل الشامل”، وتم فقط التركيز على قضايا ثانوية، حيث دفعت تلك الإستراتيجية والقائمة على الدفع بقضايا فرعية / جزئية، والعمل عليها بـ “التتالي”، وليس بـ “التوازي”، إلى إهدار الوقت وإطالة أمد الأزمة.
– أفضت التقارير الأممية المضللة للواقع الميداني/ العملياتي في اليمن، إلى خلق “مساحات رمادية” أحسنت استغلالها كلا من إيران وذراعها بالداخل “جماعة الحوثي” لمحاصرة وتطويق “التحالف الدولي”، إذ انعكس ذلك سلبا على تحركات “التحالف”، ومهمته بالملف اليمني، حيث اعتمدت التقارير الأممية على منظمات ومؤسسات محلية خاضعة للميليشيات، كما أن تاريخ الأمم المتحدة مع الأزمة اليمنية كشف اعتمادها على مصادر معلومات غير موثوقة وغير حيادية تحت ذريعة عدم التمكن من العمل في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
– إحدى أهم الإخفاقات الأممية، ما تمثّل في “البُعد المكاني” لمقر عملهم، حيث تمركز في مناطق سيطرة الحوثيين ومنطقة صنعاء، وليس في المناطق المحررة، كذلك عمل موظفو الأمم المتحدة كثيرا على تسهيل عملية إدخال أشخاص لا يحملون أي صفة دبلوماسية أو إغاثية عبر طائرات تابعة للأمم المتحدة، وهو انتهاك للتصريح الذى منحة التحالف العربي بعدم التفتيش وتسهيل المرور للطائرات الإغاثية، الأمر الذى سمح للحوثيين باستقدام مدربين عسكريين من إيران وغيرها من الدول، و زاد الأمر نحو ابتزاز الحوثيين للأمم المتحدة وخروجها عن نطاق “الحياد السياسي”.
سياسات مغايرة
على الرغم من الإحاطة الأولى التي يُقدمها المبعوث الأممي إلى مجلس الأمن لا تعكس في العادة “أجندته الكاملة”، ولا تذهب في اتجاه مقترحات محددة، أو ترسم سُبلا واضحة للطريقة التي يجب أن تنتهي بها الحرب. إلا أنه بالمقابل، فقد مثلت الإحاطة الاستهلالية للمبعوث الأممي الرابع إلى اليمن “هانز غروندبيرغ” نصاً حياً وبالغ الأهمية يحوي نظاماً من الأفكار والتصورات الواضحة أو المضمرة التي تشكل عادة أساساً لنهج جديد للتعاطي مع مستقبل “قضية الجنوب”، حيث ارتكز على عدد من المحددات، أبرزها:
– إعادة النظر في جهود التسوية السياسية الشاملة: وذلك عبر الحديث عن أولوية استئناف عملية الانتقال السياسي السلمي والمنظم والتي كانت قد توقفت منذ عام 2016، على أن تشمل تلك العملية جميع الأطراف المنخرطة بالمسألة اليمنية، وفي مقدمتهم الجنوب. خاصة وأنّ تلك العملية تزداد تعقيداً نظرا لطول فترة الصراع، كما أنّ عدم تحقيق مكاسب سريعة تُعد خطوة في حد ذاتها أقل ضرراً من توقف مسار التسوية الشاملة، لأنّ هذا التوقف يعني ببساطة استمرار الحرب لأجل غير مسمى.
– شمولية النهج التفاوضي: حيث أكدت إحاطة المبعوث الأممي الرابع على ضرورة أن يشمل نهج الأمم المتحدة في إنهاء الصراع جميع الأطراف، حيث قال غروندبيرغ: “لن أدخر جهداً في محاولة الجمع بين الفاعلين عبر خطوط النزاع”، في إشارة إلى عدم حصر الجهد الأممي لإنهاء النزاع في الطرفين الرئيسين “الحكومة الشرعية وجماعة الحوثيين”. إذ يعتقد غروندبيرغ بأهمية وجود أدوار مهمة لجميع أطراف النزاع وللفاعلين اليمنيين من جميع وجهات النظر السياسية والمكونات المجتمعية، ومن كل أنحاء البلاد – شمالا وجنوبا- في مرحلة إنهاء النزاع وتحقيق السلام المستدام على حد سواء. الجدير بالذكر، أنه ربما تكون المرة الأولى التي يَرِد فيها هذا المبدأ في إحاطة أممية، مما يضع أطراف النزاع أمام مسؤولياتها القانونية والأخلاقية، وكذلك الحديث عن “عدم وجود شروط مسبقة” فيحمل دلالات نوعية تخلص إلى ضرورة تخلي الأطراف عن شروطها المُسبقة لإجراء المباحثات، وهذه مسألة أساسية لنجاح جهود إطلاق مشاورات الحل الشامل.
– إعادة الاعتبار للمؤسسات الجنوبية: وذلك عبر التيقن من أنّ هناك مؤسسات جنوبية قادرة على التفاعل الإيجابي مع المجتمع الدولي، والتعامل مع العراقيل العديدة التي وضعتها كافة الفواعل المنخرطة بالمسألة اليمنية، لترسيم صورة مغايرة عن الواقع السياسي والأمني والعملياتي في الجنوب.
– شرعنة المجلس الانتقالي الجنوبي: برغم كونه قد أضحى طرفا معترفا به دوليًا منذ التوقيع على اتفاق الرياض كممثل عن قضية الجنوب، إلا أنّ ما ورد في إحاطة المبعوث الأممي “هانز غروندبيرغ” يدفع نحو “الشرعنة الأممية” للمجلس الانتقالي ومختلف وحداته، عبر التأكيد على أدوارهم المتباينة على رؤى الجنوب بشأن الحل السياسي بعيدا عن الإقصاء والتهميش.
مسارات مُحتملة
وفقا للإحاطة الدولية، فمن المفترض أن يبدأ المبعوث الأممي الرابع خطواته نحو “إطلاق مشاورات شاملة”، تمهيداً لاستئناف عملية السلام، وبالمقابل، فإنّ مثل تلك الخطوة، والتي تأتي بدون شروط مسبقة لأي من أطراف النزاع، مثل: مطالب الحوثيين برفع الحصار، أو ما يتعلق بمطالبات الحكومة الشرعية بوقف كامل لعمليات إطلاق النار في مأرب، والتحرك نحو البدء في خطوات الحوار الشامل، مع إشراك الفاعل الجنوبي “المجلس الانتقالي”، قد تدفع بالمبعوث الرابع “غروندبيرغ”، نحو عدد من المسارات المحتملة، أبرزها:
– المسار الأول: التراجع الجزئي عن التصورات الشمولية الواردة في الإحاطة، والابتعاد ببطء عن مسار العملية السياسية عبر البدء مثلاً بالبحث عن حلول جزئية للقضايا الاقتصادية والإنسانية، وهذا إن حدث فسيعني أن غروندبيرغ سيصل إلى النقطة التي وصل إليها سلفه المبعوث الثالث، وهي “توقف عملية السلام”. ليصبح التساؤل الرئيسي متمثلا في: كم من الوقت سيقاوم غروندبيرغ الضغط بالأوراق الاقتصادية والإنسانية إذا استمر الصراع بوضعيته الراهنة دون إحداث أي خرق بالمجال التفاوضي؟! على الجانب الآخر، فمن المُستبعد أن يستخدم غروندبيرغ أي أوراق للضغط على جماعة الحوثيين لإيقاف الهجمات على مأرب. لذا، فمن المهم في تلك المرحلة أن يقوم المبعوث الأممي الجديد بتوضيح موقفة من ذلك الملف، خاصة إذا استمرت الهجمات على مأرب دون توقف.
– المسار الثاني: العودة لمبدأ “التزامنية”، والذي قد يعني في ظل المعطيات الحالية للصراع رفع القيود المفروضة على مطار صنعاء وميناء الحديدة بالتزامن مع هدنة في مناطق المواجهات عوضاً عن اتفاق لوقف كامل لإطلاق النار، مع بدء مفاوضات رسمية شاملة في الوقت نفسه. فعلى سبيل المثال: أثار لقاء غروندبيرغ بعد انتهاء إحاطته أمام مجلس الأمن بمحمد الحسان مندوب سلطنة عمان في الأمم المتحدة تكهنات باحتمال أن تكون مسقط قد هيأت بالفعل “عرضاً تزامنياً” للمبعوث الأممي الرابع يتضمن صفقة بفتح ميناء الحديدة ومطار صنعاء بالتزامن مع بدء مفاوضات سياسية شاملة بين الحكومة والحوثيين مع الحديث الثانوي حول إشراك الجنوبيين، خاصة مع انخراط “حزب الإصلاح” في تلك النقطة، وهذا يعني تجاوز مسألة وقف إطلاق النار أو ترحيلها إلى ما بعد رفع القيود المفروضة على المطار والميناء.
ختاما، يأتي التغيّر في الخطاب الدولي نحو إعادة التذكير بما آلت إليه الأوضاع في اليمن من تشظي عقب سنوات عديدة من الحرب، ليؤكد على ضرورة إشراك مجموعات على المستوى دون الوطني، مثل المجلس الانتقالي الجنوبي، في أي تسوية شاملة لإنهاء الصراع. فالسنوات السابقة تجنب خلالها الدبلوماسيون الإقليميون والغربيون العاملون على موضوع اليمن حتى الآن السياسات المضطربة في الجنوب، إلا أنّ الوضع تغير، وذلك بتغير الخطاب الأممي والأجندات الخاصة بالمبعوث الرابع غروندبيرغ، حيث أعلن إعادة ترتيب الأولويات، فضلا عن إعادة النظر في المرجعيات الدولية، دون إغفال التحدي الأهم والمتمثل في إشراك كافة الفواعل في مشاورات السلام الشامل، وفى مقدمتهم الفاعل الجنوبي.
بالإضافة إلى ما قد يلي ذلك من تحديات تنظيمية وسياسية تتوالى بالظهور عند الحديث بشكل أكثر مهنية حول “مستقبل القضية الجنوبية”، مثل حالة التنافس السياسي، والتصدع الجهوي، ليشُكل بذلك النهج الأممي الجديد” للمبعوث الرابع إلى اليمن، اختبارا جديدا للمسألة اليمنية بشكل عام، وللقضية الجنوبية بشكل خاص، ينتهى بنتائجه لأحد اتجاهيين: إما خلق مساحات مشتركة بين كافة الأطراف المنخرطة بالصراع – في الشمال والجنوب –  تمهيدا للخروج من الأزمة اليمنية، وإما فشل “سياسات النهج الجديد” والعودة مرة أخرى للمربع الأول بالتحركات الأممية نحو إنجاز متطلبات التسوية السياسية للمسألة اليمنية.
* متخصصة في العلاقات الدولية والأمن الاقليمي  [الآراء الواردة في هذه الورقة تعبّر عن رأي المؤلفة]
أخبار ذات صله