fbpx
مقاربات في إشكالية الهوية(6)

 

كتب – د. عيدروس نصر ناصر النقيب.
عوامل نشوء وتطور الذاكرة التاريخية الجنوبية.
الذاكرة التاريخية ليست فقط رصداً للأحداث والظواهر المتصلة بالماضي البعيد أو القريب ولا تسجيلاً بانورامياً للصراعات والمواجهات والتوافقات والاختلافات المتصلة بتلك الأزمنة، بل هي حفظ واستحضار معمق للروابط والتفاعلات بين تلك الأحداث التاريخية وعلاقتها بالإنسان وعواطفه وتطلعاته وتأثيرها على مجرى السيرورة التاريخية، وما يتبعها من متواليات وتداعيات ونتائج يكون لها فعلها ليس فقط في مسار الماضي ولا حتى الحاضر بل وفي تحديد ملامح المستقبل.
فالحديث عن الذاكرة التاريخية إذن يتشعب ويتسع ليشمل طيفاً واسعاً من الأحداث والظواهر والأنشطة والتفاعلات الإنسانية والمجتمعية عبر عصور من الزمن ولا يتوقف عند فترة زمنية محدد تبدأ عند نقطة معينة وتنتهي عند أخرى، ذلك إنها (أي الذاكرة التاريخية) قد تشمل أزمنة متصلة بما تركه الأجداد البعيدين والقريبين من أحداث تاريخية كان لها صداها المستقر في وجدان الشعوب على مدى التاريخ.
ومما لا شك فيه أن الذاكرة التاريخية الجنوبية قد كانت ما قبل قيام الدولة الوطنية الجنوبية، عبارة عن مجموعة من الذاكرات المتناثرة تبعا للهويات التي عرفها التاريخ الجنوبي عبر الزمن، فهي إذن تضيق عند ما يضيق الأفق المكاني والزماني الذي تعبر عنه وتتسع عند ما يتسع هذا الأفق.
لقد جاء قيام الدولة الجنوبية في العام 1967م ليعيد كتابة التاريخ الجنوبي وما تخلله من أحداث عظيمة أو معتادة ليضعها في مسارها الطبيعي وفي إطار تفاعلها مع المسار العام لنضال الشعب الجنوبي من أجل الحرية والاستقلال وبناء المستقبل.
إن أجيال اليوم تتعامل مع ما شهدته البلاد في مرحلة مواجهة الغزوات الأجنبية ومقاومة الاستعمار من قبل الشعب الجنوبي كحقائق تاريخية تمثل ذخيرةً معنوية وطاقة أخلاقية لأبناء الشعب وللأجيال اللاحقة وهي تشق طريق مستقبلها، وشيئا فشيئا تكتسب صفة ما نسمية بـ”الذاكرة التاريخية” للشعب التي هي جزء من هويته الوطنية.
لقد ظلت مواجهة أبناء الشحر وساحل حضرموت مع الغزو البرتغالي في القرن السادس عشر الميلادي حبيسة كتب التاريخ، وربما تعلمها أبناء الشحر وبالأكثر أبنا ساحل حضرموت وحدهم من خلال ملحمة ما صار يعرف بالشهداء السبعة ولم يعرفها الجنوبيون إلا بعد وحدة الجنوب وقيام دولته الوطنية وصارت الاحتفاء بهذه المناسبة يوماً احتفالياً لكل الجنوبيين، ومثلها يمكن الحديث عن ذكرى 19 يناير 1839م يوم سقوط عدن في قبضة القوات البريطانية وما أبداه أبناء عدن في تلك المواجهة غير المتكافئة من بطولات دفعوا ضريبتها أرواحاً ودماءً لا تنمحي من الذاكرة التاريخية، ومثل تلك الأيام العظيمة في التاريخ الجنوبي تأتي ذكريات يوم الشهداء 11 فبراير ويوم الجيش 1 سبتمبر ويوم العلم 10 سبتمبر، ويوم الصحافة 5 سبتمبر وهي أيام تقترن بأحداث جليلة لها صداها المؤثر والراسخ في التاريخ الجنوبي.
كل تلك الأحداث غدت اليوم جزءً أصيلا من الذاكرة التاريخية الجنوبية وساهمت بقوة في تأصيل وبلورت ملامح الهوية الجنوبية الجديدة.
تلك الأمثلة التي تعرضنا لها تجسد ملاحم النضال الوطني الجنوبي في مراحل قريبة من التاريخ الوسيط والمعاصر، لكن التاريخ القديم للجنوب يزخر بملاحم عظمي تحتفظ بقيمتها ومعناها ذاكرة الأجيال ومنها ما ورد ذكره في القرآن الكريم عن “إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد”، لكننا محتاجون للبحث الدقيق والتفصيلي في بواطنها وما تكتنزه من تفاصيل تمثل جزءً من الحضارات الجنوبية القديمة وجزءً مكملاً للهوية الجنوبية.
كما إن الملاحم الأثيرة التي خاضها أبناء الجنوب في مرحلة البناء الوطني (1967-1990م) قد صارت هي الأخرى جزءً أصيلا من ذاكرة الجنوبيين الحية، وليس صدفة أن معظم من كانوا شباباً أو حتى صبيةً في تلك المرحلة، ما يزالون اليوم يسمون ذلك الزمن بـ”الزمن الجميل”، وهي وإن كانت تسميةً عفويةً لم تتبناها أية جهة رسمية، لكنها تعبر عما اقترن به ذلك الزمن من تمظهرات أخلاقية وإنسانية عبرت عن الروح الوطنية الحقيقة للإنسان الجنوبي وجسدت تطلعاته ومصالحه وغدت جزءً من الماضي الذي يفاخر به أحفاد رجالات ونساء ذلك الزمن وصناع أمجاده ومنجزاته.
نشوء وتنامي منظومة الحقوق والواجبات الجنوبية المشتركة.
كنا قد قلنا منذ البداية أن واحداً من أهم عناصر الهوية يتمثل في الحقوق والواجبات  المشتركة بين أصحاب الهوية الواحدة، فإذا كانت التكوينات المجتمعية ما قبل الدولة تقوم على تراتبيات وبُنَى اجتماعية مختلفة تأتي منظومة الحقوق والواجبات تبعاً لها ويجري تنظيمها من خلال ما صار يعرف بمنظومة الأعراف والعادات والتقاليد التي تختلف باختلاف المكان والزمان، فإن مجتمع ما بعد قيام الدولة الوطنية يختلف عند هذه الميزة بأنه يقيم منظومة الحقوق والواجبات وفقا لنهج جديد تتضمنه القوانين والدساتير والنظم (أو هكذا ينبغي) وتقوم عليه المؤسسات المختصة التي تعكس في تعاطيها مع هذه المرجعيات طبيعة النهج السياسي والاجتماعي للدولة المعنية.
وهكذا فمنذ قيام الدولة الجنوبية في العام 1967م وعلى مدى ما يقارب ربع قرن من الزمان، كانت قد جرت إعادة تنظيم تلك الحقوق والواجبات وكل منظومة العلاقات بين الأفراد والجماعات، وبين الدولة ومواطنيها من خلال الدستور والقوانين التي تنظم حياة الناس تحت لواء الدولة وتحدد ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، ما يجعل الناس يشعرون بمشتركات ملزمة لهم جميعاً تجعلهم شركاء في الهوية ومقتضياتها وكل ما يتصل بها.
ليست هذه المنظومة حكراً على دولة الجنوب، ما بين (1967م-1990م) فكل دول العالم لديها ما يناسب ظروفها ومستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي ومستوى معيشة مواطنيها من القوانين والأنظمة والدساتير، لكن ليست كل الدول تطبق النصوص التي تقرها برلماناتها أو تصدرها إداراتها وأجهزتها التنفيذية، بينما كانت اليمن الديمقراطية من بين الدول التي حولت تلك المرجعيات الدستورية والقانونية إلى ما يشبه النصوص المقدسة، فالدستور والقانون يطبقان على جميع المواطنين بغض النظر عن مستوياتهم وانتماءاتهم ومواقعهم السياسية والاجتماعية، وتبعاً لذلك يحصل المواطنون على حقوق متساوية ويقومون بأداء واجبات متساوية، والعنصر المهم هنا يكمن في أن المواطن (صَغُرَ أم كَبَرَ) يعتبر القانون قانونه والحق حقه والواجب واجبه، وشيئا فشيئا تحولت ثقافة الامتثال للقانون إلى وعي وتقليد وجزء من السلوك اليومي في تعاملات الناس وعلاقاتهم ببعضهم.
إننا هنا لا نتحدث عن مجتمع من الملائكة أو حتى من بروفيسورات القانون والدستور، لكننا نتحدث عن ثقافة التعاطي والقبول، وليست ثقافة الحفظ والاستظهار، ومن الطبيعي أن الشواذ كانت قائمة، وحالات الاحتيال إو التهرب أو حتى عدم إدراك مضامين القانون وعدم احترامه والميل إلى الجريمة، كل هذا ظل ملازماً للتجربة الجنوبية، وهو شأن جميع المجتمعات الإنسانية، لكن ما نقصده أن هذه الظواهر الشاذة لم تكن إلا استثناءات في إطار قاعدة تعاطي الناس عامة مع منظومة القوانين كجزء من المكتسبات والالتزامات.
لقد مثلت التشريعات التي اتخذها النظام الوليد في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية إطاراً قانونياً ينظم مجموعة الحقوق والواجبات لأبناء البلد، تجاه بعضهم البعض وتجاه المجتمع، فأصبح الناس بمرور الزمن يتعاملون مع هذه التشريعات من نظم ولوائح وقوانين باعتبارها شأناً عاماً يعني كل المجتمع، وصيغا ملزمة لكل أفراده وجزءً لا يتجزأ من متطلبات حياتهم.
وتنبغي الإشارة هنا إلى إن طبيعة النظام السياسي في اليمن الديمقراطية الذي تبنى نهج العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية، وقام على رفض التمييز بين المواطنين لأي سبب من الأسباب، الطبقية أو الاجتماعية أو الجنسية أو السياسية أو العرقية أو الجهوية، قد حَرِصَ القائمون عليه على جعل منظومة القوانين تكرس تلك القيم التي نشأ عليها النظام، ولذلك فقد خصصت السياسات القانونية الرسمية رعاية خاصة للفئات المستضعفة، كالمهمشين، وذوي الاحتياجات الخاصة، والمرأة الريفية والأطفال، والعجزة والمسنين، ولم يكن شعار العمال والفلاحين والصيادين مجرد تعبير دعائي وإعلامي بل كان يعبر عن الاهتمام الخاص بالطبقات الدنيا من المجتمع التي عانى أفرادها تهميشاً كبيراً على مر أزمنة ما قبل الاستقلال وقيام الجمهورية، وجاءت التشريعات لتكفل لكل هؤلاء حياةً حرة وكريمة ترتقي بآدميتهم إلى المستوى اللائق بإنسان نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين.
  ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• أجزاء ملخصة من كتاب “القضية الجنوبية وإشكالية الهوية” للمؤلف الصادر ي القاهرة لعام 2022م