fbpx
وداعاً .. للمناضل عمران
شارك الخبر

 

كتب – عيدروس نصر ناصر النقيب.
هو أحد الثوار الأوكتوبريين المميزين المتميزين ولا يدَّعي تميزاً، وأحد أبرز المناضلين ولا يتفاخر بنضالٍ، وأحد الذين دوخوا القوات البريطانية وأنصارها في فترة الكفاح الوطني التحرري المسلح منذ زمن الانتفاضات والتمردات القبلية المسلحة المبكرة إلى اندلاع ثورة الرابع عشر من أكتوبر وخوض الكفاح الوطني التحرري المنظم حتى رحيل المستمعر وقواته يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م وإعلان جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية الوليدة والشروع في عملية البناء الوطني طوال فترة نهاية الستينات والسبعينات والثمانينات.
إنه المناضل الوطني الشهير صالح فاضل الصلاحي (عمران)، الفدائي الذي عاصر الثورة الأوكتوبرية المسلحة منذ انطلاقتها الأولى من قمم ردفان الأبية يوم الرابع عشر من أوكتبر 1963م حتى رحيل آخر جندي بريطاني من عدن الحبيبة، وواكب مرحلة البناء الوطني منذ اللبنة الأولى حتى سَقْطَةِ يوم 22 مايو الكارثية التي أجهزت على الجنوب ودولته ومكانته التاريخية ووحدته الوطنية، وما تلاها من مآسي ليس هذا مقام التوقف عندها.
كنت ومنذ نحو ست سنوات قد توقفت عند كتاب “(ذكريات “عمران” . . الفدائي والإنسان)، وهو الكتاب الذي يدون السيرة الذاتية لهذا المناضل الاستثنائي، وتناولت في خمس حلقات أهم المواقف والمراحل والمنعطفات التي احتواها الكتاب من حياة هذا الفدائي البطل، (ويمكن للقارئ المهتم العودة إلى صفحتي هذه للعثور على تلك التناولات ما بين 4 أبريل حتى 22 أبريل  2017م)، ولن أتوقف هنا مطولاً عند السيرة الذاتية ولا عند الأدوار النضالية المميزة للفدائي “عمران”، في مرحلتي الكفاح المسلح والبناء الوطني، لكنني هنا سأكتفي بأهم ما تمثله لنا دراسة السيرة الذاتية لهذا الرجل من الدروس والعبر التي يمكن أن تمثِّلَ مرجعاً مهماً لمن أراد أن يقتدي بسلوك ومآثر جيل الفقيد عمران من الثوار الجنوبيين الذين استطاعوا ببضعة مئات منهم، وبإماكانيات متواضعة من العتاد الذي كانوا يحصلون عليه من الأشقاء والأصدقاء ومما يغنمونه من قوات العدو، ولكن بالإرادات الفولاذية التي لم تقهرها طائرات ولا مدفعيات ولا صواريخ ولا سجون الاحتلال، أستطاعوا أن يهزموا إمبراطورية كانت توصف ذات يوم بأنها “لا تغيب عنها الشمس” نظراً لامتداد هيمنتها في مشارق الأرض ومغاربها، من سنغافورا وأستراليا ونيوزيلاندا شرقاً حتى كندا و الأرجنتين وجزر الفولكلاند غرباً، واستطاعوا أن يجبروها على الرحيل في الوقت الذي اختاروه هم وليس كما كان يشاء المستعمر ومستشاروه.
إن أهم هذه الدروس التي يمكن أن نتعلمها من حياة الفقيد المناضل “عمران” ورفاقه المناضلين الأوكتوبريين يمكن تلخيصها في التالي:
• أن الثورة (أي ثورة وطنية تحررية) هي عمل منظم بأهدافٍ محددة وأدوات ووسائل واضحة واستراتيجية مرسومة وتكتيكات قابلة للتعاطي، وإن للثورات قوانينها وصيرورتها، ولها عواملها الذاتية والموضوعية، وأن وجود طليعة سياسية قائدة تخطط للثورة وترسم آفاقها وتحدد أهدافها واستراتيجياتها وتكتيكاتها يمثل أمراً حاسماً لنجاح الثورة وإنه بإمكان هذه الطليعة أن تتألف من المئات أو حتى العشرات من المناضلين الأشداء المخلصين والمدركين لغاية نضالهم، لكنهم بعددهم القليل هذا لقادرون على صناعةِ أحداثٍ تاريخيةٍ عاصفة قد لا ينجزها الآلاف أو مئات الآلاف غير المنظمين وغير المرتبطين بطليعة سياسية منظمة وأهداف استراتيجية واضحة المعالم.
• إن الأحداث الصغيرة المتصلة ببعضها والمرتبطة بأهداف عظيمة والهادفة إجراء عملية التغيير المنشود يمكن أن تتحول بمرور الزمن إلى زلازل مدمرة للكيان المراد تغييره، فمهاجمة مركز شرطة من مراكز السلطات الاستعمارية أو اغتيال ضابط انجليزي لم يكُن حدثاً منفرداً بذاته، بل إنه يصبح جزءً من سلسلة متواصلة من العمليات التي تتحول بمرور الزمن إلى عواصف تحفر أثرها في المسار التاريخي للعملية الثورية وتقود إلى النتيجة الحتمية المتمثلة في التغيير التاريخي وانتصار الثورة وأهدافها، تماماً كما تتحول قطرات المطر المتفرقة إلى سيل جارف يفعل ما يفعل في جرف كلِّ ما يقف في طريقه.
• إن الأحداث العظيمة تصنعها الإرادات العظيمة لأناس عظماء، فالثورات لا يمكن أن تصنعها الإرادات الخائرة ولا أن تنجزها الأيادي المرتعشة، بل يصنعها التخطيط والتدبير والمغامرة والاستعداد للبذل والتضحية والعطاء دون انتظار مكافأة من أحد وهذا ما تؤكده مسيرة ثورة الرابع عشر من أكتوبر منذ انطلاق رصاصتها الأولى حتى لحظة انتصارها على المستعمر وإعلان ميلاد جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في 30 نوفمبر 1967م.
• إن الإرادات العظيمة التي تصنع الأحداث العظيمة، تقتضي وحدة مركز هذه الإرادة وبالتالي تصرف جميع فريق الثورة بالانطلاق من هدفٍ واحدٍ ووفقاً لاستراتيجيةٍ واحدةٍ وبمنهاج تقره الطليعة السياسية للثورة ويمتثل له كل المناضلين المنخرطين في إطارها امتثالاً صارماً لا يقبل التهوين أو التردد أو الانتقاء والعشوائية.
• إن تسلل النزعات الذاتية والنزاعات الجانبية إلى صفوف الطليعة السياسية هو بداية الاعتلال لهذه الطليعة والأهداف العظيمة التي تعبر عنها، ويمكن لهذه  النزعات والنزاعات غير المبررة والقائمة على الأنانية السياسية أو حب الذات، أن تتحول إلى فيروس قاتل للكيان السياسي يفعل من التدمير ما لا تفعله كل المؤامرات والمكائد الخارجية، لأنه يبدد القوى ويصرف الطاقات نحو الأهداف غير الوطنية ويسخر الممكنات لمواجهة رفاق الأمس بدلاً من تجميع طاقات الأطراف الوطنية لإنجاز ما تستدعيه التحديات المرحلية الماثلة والمرتقبة.
• إن لكل مرحلة من مراحل تاريخ الثورة تحدياتها ومهماتها ومن ثم شروطها ومهماتها وأدوات عملها وتبعاً لذلك، قوانينها التي تختلف اختلافاً جذرياً عما قبلها وما بعدها، وبالتالي فإن الخلط بين مهمات وأهداف وأدوات ووسائل المراحل المختلفة، من شأنه أن يؤدي إلى عواقب قد تصل إلى المأساوية وتقود إلى كوارث غير مرتقبة ولا محمودة.
• إن غياب المؤسسية والانضباط وعدم التقيد بالتراتبية في عمل المؤسسة السياسية المضطلعة بقيادة الثورة (أي ثورة) يمثل عائقاً أساسياً من معوقات التطور السياسي والحيوية السياسية وهو مهما كانت التبريرات ومهما كانت نزاهة ووطنية الزعامة السياسية يوفر أرضية خصبة للفوضى والعشوائية والارتجال وقد يؤدي إلى نمو بذور الديكتاتورية والنزعة الفردية، ومن ثم نشوء النزاعات والصراعات والاستقطابات المدمرة وبالتالي انقسام معسكر الثورة إلى تجنحات متناحرة تنسى الأهداف العظيمة التي أتت من أجلها الثورة لتنصرف في مواجهة النزاع الداخلي  الذي يستحكم في مسار الثورة وقد يؤدي إلى وأد الثورة وأهدافها.
• إن للثورات قيمها وأخلاقها وأهم هذه القيم هي الشجاعة ، الصدق، النقاء الثوري، الوفاء والإيثار ونكران الذات والاستعداد للتضحية والفداء، والتواضع والعطاء اللامحدود، وعدم الطمع أو الأنانية أو البحث عن المصالح الذاتية الضيقة، فلا يمكن الجمع بين الفدائية ونزعة النهب والسلب أو تحقيق الأرباح المالية أو اقتناء الأملاك والأصول ووسائل الإثراء على حساب قيم الثورة وأهدافها، ولا يمكن الجمع بين النقاء والتواضع الثوري وبين الاستهتار والخداع والزيف والتضليل ومغالطة الجماهير أو التعالي عليها واحتقار ذكائها.
ذلك قليل من كثير مما يمكن تعلمه من السيرة الذاتية للمناضل الأوكتوبري الكبير صالح فاضل الصلاحي “عمران” وجيله العظيم.
أخيرا لا يسعني إلا أن أتقدم بصادق مشاعر العزاء والمواساة إلى الأخوين العزيزين الزميل د. محمد صالح فاضل الصلاحي وأخيه الصديق حسين صالح فاضل الصلاحي، وإخوانهم وإلى أحفاد الفقيد وكل أهلهم وذويهم وإلى زملاء ورفاق الفقيد وكل محبيه وإلى القيادة السياسية الجنوبية وكل مناضلي ثورة 14 أكتوبر وزملاء الفقيد في مراحل البناء الوطني في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
أبتهل إلى المولى العلي القدير أن يرحم فقيدنا الكبير ويغفر له ويتوب عليه ويسكنه فسيح جناته وأن يلهمنا وكل أهله وذوية وجميع محبيه الصبر والسلوان.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
أخبار ذات صله