fbpx
مقاربات في إشكالية الهوية (7,8,9)

 

كتب – د.عيدروس نصر ناصر النقيب.
(7)
 البناء الاقتصادي وتوسيع دائرة الخدمات الاجتماعية وما ترافق معها من ولادة المصالح المشتركة بين السواد الأعظم من أبناء الحنوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اقترنت منظومة المصالح المادية التي نشأت في الفترة ما بعد تحقيق الاستقلال الوطني وقيام الدولة الجنوبية الجديدة (1967-1990م) بقيام اقتصاد وطني جرى بناؤُهُ على خلفية مجموعة الاقتصاديات المتهالكة والبدائية التي ورثها النظام الوليد من كيانات ما قبل الاستقلال، من السلطنات والمشيخات والإمارات.
وباستثناء مستعمرة عدن التي عرفت عدداً من المرافق الاقتصادية العصرية كالميناء والمطار والمصفاة وبعض المصانع والمعامل الصغيرة إلى جانب التوكيلات التجارية والمرافق السياحية وغيرها من المكونات الاقتصادية والخدمية المعاصرة نسبياً، فإن اقتصاد بقية السلطنات والإمارات ما قبل الاستقلال كان قائما على الزراعة البدائية في معظم مناطق الجنوب، مع بعض المشاريع التحديثية التي شهدتها بعض المناطق الزراعية الساحلية مثل دلتا أبين وتبن وبغض مناطق حضرموت، أو على الاصطياد البحري بالوسائل البدائية في المناطق الساحلية وما عدا ذلك فإن معظم السكان في بقية المناطق وهي المساحات الأوسع من دولة ما بعد الاستقلال كانت تعتمد على  الزراعة البدائية التي تعتمد في ريها على مياه الأمطار الموسمية، وعندما كانت الأمطار تنقطع كان السكان يتعرضون للمجاعة وما ينجم عنها من فقر دم وسوء تغذية واننتشار الفقر والأمراض والأوبئة.
وهكذا فقد بنت دولة الجنوب الفتية اقتصادها على هذه الأسس الضعيفة وانطلقت الحكومة الجديدة في وضع اللبنات الأولى للاقتصاد الجديد من خلال اعتماد الخطط الاقتصادية، الثلاثية والخمسية.
ووفقا للسياسة الاقتصادية القائمة على أسس التوجه الاشتراكي فقد ارتكز الاقتصاد الوطني على أربعة قطاعات هي القطاع العام (الحكومي) وهو القطاع السائد والمهيمن، القطاع الخاص، القطاع المختلط والقطاع التعاوني، وبني القطاع العام الحكومي على خلفية المؤسسات الموروثة مما قبل الاستقلال وما جرى تأميمه من المصالح الاقتصادية الأجنبية ثم بناء مجموعة من المصانع الوطنية الجديدة المعتمدة على المواد الخام المحلية، كالصناعات السمكية والزراعية، وصناعة الغزل والنسيج والعطور والتبغ والكبريت ومعجون الطماطم وحلج القطن، والمصانع المنتجة للأدوات الزراعية وغيرها، فضلا عن تطوير الخدمات الملاحية من خلال ميناء عدن وموانئ المكلا والشحر وبعض الموانئ الصغيرة في المهرة وشبوة وأبين وإنشاء شركة أحواض السفن  وغيرها من الصناعات التحويلية والخدمية التي جرى تأسيسها هنا وهناك، وبجانب هذا كانت مزارع الدولة المنتشرة في عدد من المحافظات الزراعية تشكلُ جزءاً مهما في بنية القطاع العام.
وقد بُنِي القطاع التعاوني على أساس الجمعيات التعاونية للخدمات الزراعية والاستهلاكية وخدمات الاصطياد السمكي التي نشأ بعضها ما قبل الاستقلال وغالبيتها جرى إنشاؤها بعد الاستقلال، وتركز نشاطها في مجالي الزراعة والأسماك فضلا عن التعاونيات الخدمية ومعظمها تجارية.
أما القطاع الخاص فقد شمل الاستثمارات الخاصة لبعض رجال الأعمال في بعض الصناعات والزراعة وقطاع الخدمات والصناعات الخفيفة والمقاولات، وشكلت المشاركات بين هذاالقطاع وبين القطاع الحكومي ما سمي بالقطاع المختلط.
يمكننا الحديث طويلاً عن هذه القطاعات والمنشآت التي شهدت البلد ميلادها بعد الاستقلال وشكلت لب الاقتصاد الوطني الجنوبي في ظل الدولة الجنوبية الجديدة والذي لم يكن مزدهرا بالمقارنة مع التحديات التي كانت ماثلة ومع ما شهده العالم من نهوض اقتصادي واستثماري وخدمي، لكن ما يهمنا هنا هو إن تلك القطاعات قد استوعبت مئات الآلاف من الأيادي العاملة عالية ومتوسطة التأهيل، وهو ما شكل طبقة اجتماعية عريضة ارتبط بعضها بمصالح ذات طبيعة مصيرية تحولت بمرور الزمن إلى عاملٍ من عوامل ترسيخ الهوية الجنوبية لما ترتب عليها من شبكة مصالح مصيرية صارت أشبه بالرابط السحري التي يربط أعضاء المجتمع ببعضهم ويجعل مصير بعضهم جزءً من مصيرهم جميعاً
وفي إطار عمليات التحول الاجتماعي والخدمي والاقتصادي علينا أن لا ننسى ذلك التحول المهم الذي شهده قطاع الخدمات بجميع مناحيه، فقد تمكن النظام الوليد في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أن يبني نظام خدمةٍ طبيةٍ تمكنت من منافسة الكثير من البلدان المجاورة وتفوقت على الكثير من البلدان العربية بما فيها الجمهورية العربية اليمنية من حيث استئصال العديد من الأمراض الوبائية كالجذام والملاريا وأمراض الأطفال الستة والجدري وغيرها، مع ما شهده قطاع الخدمة الطبية من تقديم خدمة مجانية لكل أبناء البلد تشمل كل ما له صلة بالتطبيب والتمريض ورعاية الأمومة والطفولية، بدءاً بنظام الكشف والتشخيص وتقديم الدواء وانتهاءً بإجراء العمليات الجراحية المعقدة، في الداخل أو في الخارج تتحمل الدولة كل تكاليف ذلك مع أية نفقات مرافقة كتذاكر السفر للمريض ومرافق له والإقامة وغيرها عند إجراء العلاج خارج أراضي الجمهورية.
ومثل القطاع الطبي جرى تحديث قطاع التربية والتعليم بدءاً بدور الحضانة ورياض الأطفال مروراً بالمرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية، حتى الدراسة الجامعية، ودرجات التعليم العالي المتمثل في طلاب الماجستير والدكتوراه، وتحملت الدولة نفقات التغذية المدرسية من دور الحضانة ورياض الأطفال حتى الأقسام الداخلية للمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية وكليات جامعة عدن، مع مدفوعات مصاريف الجيب المختلفة لتلاميذ المدارس وطلاب المعاهد والجامعات، فضلاً عن مصاريف النقل والمواصلات المدرسية التي لم تتوقف إلا صبيحة 23 مايو 1990م
وبجانب ذلك جاءت خدمات التأمينات والإعانات الاجتماعية لتشكل خط دفاع يحمي الطبقات الفقيرة والمتقاعدين من الوقوع في شراك الإملاق والمجاعة، وبالرغم من محدودية التطور الاقتصادي وضيق الموارد الاقتصادية فقد اختفت ظاهرتي الفقر والبطالة ووصلت الخدمات الاجتماعية مستوى لم تبلغه الكثير من البلدان المجازرة بما في ذلك بعض البلدان النفطية الثرية.
ومما يؤخذ على السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها  البلاد في الفترة بين العامين 1967م-1990م أنها ومن خلال إجراءات التأميم قد ألحقت ضرراً كبيراً بالرأسمال الوطني وأدت إلى نزوح رجال المال والأعمال للنشاط خارج البلد وحرمان البلاد من واحد من أهم موارد التنمية والنهوض الاقتصادي، كما اتخذت نظام المركزية الحكومية الصارمة واعتمدت بشكل أساسي على القطاع الحكومي الذي لم يكن بمقدوره القيام بوظائف الرأسمال المحلي الخاص، ناهيك عما كان يمكن أن تلعبه الاستثمارات الرأسمالية الأجنبية فيما لو منحت الفرص المناسبة لممارسة نشاطها الاستثماري على أرض الجنوب، مما أدى إلى نشوء اقتصاد أحادي مشوه ومتخلف تسبب في ركود عام استمر لعقدين من الزمن، ويرى الكثير من الاقتصاديين  أنه وبسبب السياسات ذات التوجه الاشتراكي وعدم وجود استثمارات في التنقيب على المعادن والثروات النفطية، قد حرمت الساحة الجنوبية من إمكانية خوض منافسة بناءة مع جاراتها العربيات مما جعل الاقتصاد  الجنوبي عاجزاً عن اللحاق ببقية الاقتصادات العربية.
إن هذه الأمور وغيرها ليست موضوع بحثنا المباشر، ولا يمكن مناقشتها في هذا المقام إلا من منطلق علاقتها المباشرة أو غير المباشرة بنشوء وتطور الهوية الجنوبية التي هي موضوع بحثنا هنا، وهي أمور تستحق التوقف عندها في سياق آخر، مع الإشارة إلى أن لتلك المآخذ المبررة مسبباتها التي ترتبط بظروف لحظتها التاريخية وملابساتها المختلفة المتصلة بالصراع العالمي على الصعيد الدولي  والإقليمي ومؤثرات الحرب الباردة وكل ما يتصل بها من تعقيدات صبغت كل اقتصاديات المنطقة، ولم تكن اليمن الديمقراطية بعيدةً عن كل هذا، وهو ما يتشعب الحديث فيه كثيراً.
كما إن ما شهده الجنوب من خطوات ترسيخ معالم الدولة الجديدة وبناء شبكة العلاقات والمصالح الوطنية التي تخص كل المواطنين: الجيش الوطني الجديد، المؤسسة الأمنية الوطنية، المنظومة الإدارية والقانونية والدستورية الجديدة، تعزيز روح القانون الذي يطبق على الغفير والوزير على السواء، التواشج والتكامل والانسجام بين حقوق المواطنين وواجباتهم، إقامة منظومة قضائية تتميز بالصرامة من ناحية وبالعدل والنزاهة من ناحية أخرى وبالسلاسة والديناميكية من ناحية ثالثة، وتنمية وتعزيز الوعي بالانتماء إلى الوطن الواحد الجديد الموحد، كل ذلك وسواه من الإجراءات التي انعكست مباشرة على حياة المواطنين جعل كل المستفيدين منها وهم الغالبية الساحقة من السكان يشعرون فعلا بالانتماء إلى كيان واحد يعبر عن كينونتهم ويحمي وجودهم ويجسد مصالحهم ويعتزون بالانضواء تحت لوائه ويفاخرون بحمل رموز هويته (البطاقة الشخصية وجواز السفر الجنوبيين)، وكانت الوثائق الصادرة من اليمن الديمقراطية كالشهادات المدرسية والجامعية، وشهادات القضاء والتوكيلات والتفويضات المختلفة المعمدة من المحاكم الجنوبية أو الممثليات الجنوبية في الخارج، كانت محل ثقة لدى جميع المنظمات الإقليمية والدولية والدول والبلدان العربية والأجنبية حتى تلك التي لم تكن ترتبط بعلاقات حسنة مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، لما تمتع به النظام من سمعة طيبة من حيث دقة البيانات وتحريم وتجريم التزييف والتزوير للمستندات الرسمية ومحاربة أي مظهر من مظاهر الفساد الإداري أو المالي أو الأخلاقي بشكل عام.
لقد تشكلت الهوية الجنوبية ونمت وازدهرت على خلفية هويات متعددة تراجعت وتضاءل حضورها بل وكادت أن تختفي لأن حضورها لم يعد له قيمة سوى تلك القيمة التاريخية وبعض الملامح الثقافية التي شكلت مع بعضها عامل خلق وإبداع وثراء للهوية الجديدة (الهوية الجنوبية) ولم تشكل قط سبباً من أسباب التنافر والتصادم ، وحتى في أسوأ الظروف (مراحل النزاعات السياسية والمسلحة) لم تتمكن تلك العواصف من التأثير على الهوية الجنوبية نظرا لبقاء العوامل الأهم في تكوين الهوية وهي الثقافة الشعبية والرابطة التاريخية والمكون الاقتصادي والمصالح المادية والمعنوية والقيم الأخلاقية المشتركة بين السواد الأعظم من سكان الجنوب.
مقاربات في إشكالية الهوية (8)
ربما كان عمر جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كنظام سياسي قصيراً، بالمقارنة مع ما يتطلبه عمر دولة وطنية بهوية وطنية متكاملة الأركان والشروط، لكننا نستطيع القول إنه وخلال تلك  الفترة القصيرة كان مجرد شعور أي مواطن جنوبي بالانتماء إلى هذا البلد مصدر فخر واعتزاز وهو يعبر الحدود والمطارات، رغم نفور بعض الأنظمة الشقيقة وغير الشقيقة من اسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ونظامها السياسي، بفعل الصراعات السياسية والأيديولوجية، ومؤثرات الحرب الباردة ونزاعات القطبين الدوليين المهيمنين على العالم.
وإذا ما أخذنا تلك المعايير الأكاديمية الصرفة التي تحدثنا عنها سلفاً فإنه بإمكاننا الإشارة إلى حضور تلك المتطالبات الأساسية للهوية الواحدة، سواء ما يتعلق منها بالموقع الجغرافي الواحد، أو الذاكرة التاريخيّة الوطنية المشتركة، أو الثقافة الشعبيّة المتقاربة والموحّدة أو شبكة الحقوقٌ والواجباتٌ المشتركة المرتبطة بالقانون العام أو تلك التي تنشأ في إطار العلاقات الاجتماعية العفوية بين الناس، كما كان وجود الحياة الااقتصادية والمعيشية  المشتركة قد مثل مصدراً لوحدة المصالح المادية المتناسقة مع وحدة المصالح المعنوية التي تشملها منظومة الثقافة الشعبية والقوانين والتشريعات الوطنية.
إن هذه المقومات نشأت ونمت واتسعت وتعمقت في حياة المواطنين الجنوبيين، عبر عقود من الزمن، وكان قيام الدولة الجنوبية لحظةً حاسمةً في ثبات وصيرورة هذه المتفاعلات التي غدت تمثل المداميك الأساسية للهوية الجنوبية التي يتحدث عنها الجنوبيون اليوم وهم ينافحون عن حقهم في استعادة دولتهم وبناء كيانهم الوطني المستقل الجديد المعبر عن آمالهم وتطلعاتهم وعلى أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم.
وقبل الخروج من هذا الفصل وتعميماً لكل ما قيل أعلاه لا بد من التعرض لعدد من التأكيدات المهمة ذات الصلة الجوهرية بعملية نشوء وتطور الهوية الجنوبية وما ترافق معها من صور وأشكال لتمظهرات موازية تتعلق بالهوية الجنوبية كمعبر عن الانتماء الوطني لكل أبناء الجنوب إلى أرضهم وشعبهم ويمكن تلخيص هذه التأكيدات في الحقائق التالية:
1. إن الهوية الجنوبية لم تنشأ بمرسوم إداري أو قرار سياسي كما أن نشوءها لم يتم بين عشية وضحاها ولم ينجز بعصا سحرية بل إنه جاء نتيجة طبيعية لتفاعل جملة من التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية التي استغرقت عقوداً من الزمن، جرت الإشارة إليها في سياق هذا الفصل.
2. إن نشوء وتطور الهوية الجنوبية لم يسر في خط مستقيم وعلى طريق ناعم خالٍ من المسالك الشائكة والعوائق المثبطة بل لقد نشأت هذه الهوية وتنامت في أتون معتركات صعبة على طريق طويلٍ ومتعرج ومسالكَ معقدة نسبياً لكنها تمخضت عن تلك الولادة الحية والمعافاة.
3. إن الهوية الجنوبية لم تمثل إلغاءً للهويات البينية التي تشكلت منها أو بنيت على اندماجها ببعضها، بل لقد احتفظ أصحاب تلك الهويات بالكثير من مميزات مناطقهم وموروثاتهم الثقافية وذاكرتهم التاريخية، ولو تذكرنا احتفال أبناء حضرموت بيوم الشهداء السبعة، ومظاهر اللهجة السقطرية والمهرية، والتمايزات المعمارية في شبوة وأبين ويافع، وأغاني الصيادين في راس العارة وشقرة والشحر ونشطون وما يترافق معها من عادات وتقاليد تميز بين هذه المناطق كما تميز كلاً منها عن سواها لاكتشفنا ما تتمايز به الذاكرة التاريخية والثقافة الشعبية لهذه المناطق مع بعضها وذلك الطيف الجميل في تكوين الثقافة الشعبية الجنوبية، ولرأينا أن هذا التمايز وتعدد ألوان قوس قزح الثقافية والشعبية بين مناطق الجنوب لم يكن إلا عنصراً من عناصر إغناء هذه الثقافة الشعبية الجنوبية الأم ومن ثم عنصر إثراء للهوية الجنوبية لا سبباً من أسباب تنافر مكوناتها أو التهام بعضها بعضاً.
4. ومع ذلك وبسبب التفاعل الجدلي الموضوعي بين العمليات التاريخية السياسية والاقتصادية وبين ما يرافقها من عمليات وتداعيات ثقافية ومعنوية موضوعية فإن ما شهدته مرحلة بناء الدولة الجنوبية من شطحات (ثورية) وخطوات إرادوية (مزاجية) ومحاولات لـ”حرق المراحل”، وتطبيق إجراءات وسياسات غير مدروسة بشكل كافي، كل هذا قد خلق انعكاسات سلبية في صيرورة عملية التحول نفسها، مما أبطأ من عملية النمو الاقتصادي والاجتماعي، وألحقَ تشويهات ضارة بالوعي الوطني، أثرت سلباً في عملية ترسخ الهوية الوطنية الجنوبية لكنه لم يلغِها أو يحول دون ديمومتها وحيويتها.
5. إن بعض المكونات الماضوية ذات القيمة السالبة القادمة من تلك الهويات ما قبل الدولة الجنوبية، لم تضمحل ولم تمت بصورة نهائية، بل بقيت كامنة في الزوايا الخفية للوعي الاجتماعي العفوي، لكنها بقيت قابلة للانتعاش في أي لحظة موائمة، وهذا ما جرى في بعض فترات الصراعات الداخلية بين الأقطاب السياسية في إطار القيادة الجنوبية الواحدة، وقد كان لهذا تأثيراً سلبياً على سرعة تنامي وحضور الهوية الجنوبية الواحدة، ووجدت في الصراعات الجنوبية-الجنوبية تعبيرا ًمكثفاً عنها، بيد أن هذا التأثير لم يؤدِ إلى اضمحلال الهوية الجنوبية أو ضمورها وهذا ما تأكد عند ما كانت الهوية الجنوبية معرضة لخطر الاقتلاع بعد غزو أرض الجنوب واحتلالها في العام 1994م وما بعده.
هذه الظواهر إنما كانت تعبر عن عدم اكتمال عملية الاندماج بين أصحاب الهوية الجنوبية الجديدة أو بعبارة أخرى إن الطريق الذي مر به نشوء وتطور ونمو الهوية الجنوبية لم يكن سلساً ولا وردياً، وإن العناصر السلبية في مكونات الهويات السابقة قد مكثت أو ترسبت في مخابئ قصية من الذاكرة الشعبية، ولم تغادر نهائياً، وبقيت لتعبر عن نفسها في اللحظات الحرجة من تاريخ التجربة الجنوبية، ومع كل ذلك فإن ظهورها في لحظات معينة من تاريخ التجربة الجنوبية، لم يؤدِّ إلى ما تمناه أعداء الجنوب وقضية الجنوب في تصفية ومسخ تلك الهوية.
6. ومن المهم الإشارة إلى إنه قد جرى استدعاء تلك الترسبات في الوعي الجمعي الشعبي ليستخدمه الوافدون ما بعد 7/7 في سبيل تفكيك اللحمة الوطنية الجنوبية وإنعاش هويات ما قبل الدولة في الكثير من المناطق الجنوبية من خلال محاولات إحياء العلاقات العدائية القائمة على نزاعات الثأر والحروب القبلية والجهوية، وإعادة البلد إلى أزمنة ما قبل الدولة من خلال تنشيط الواجهات التقليدية البديلة للدولة الحديثة، وقد أفلحوا أحيانا لكنهم أخفقوا في معظم الأحيان.
7. وبما إن الهوية ظاهرة تاريخية تولد وتنشأ وتنمو وتشيخ وقد تصغر أو تكبر وقد تشهد اتساعاً أو انكماشاً، فإن كل هذه الطبائع تنطبق على الهوية الجنوبية في كل المراحل التاريخية التي مرت بها منذ البزوغ والتنامي، فالنشوء والاتساع، وحتى لحظات محاولة الطمس والمسخ، حيث إنها لم تعرف استقراراً، وبالتالي لا يمكن الحديث عن معطىً جاهزٍ في حالة واحدة من التوقف والثبات والاستقرار، بل لقد ظلت في حالة من الحركة والصيرورة والتغير تبعاً للظروف التاريخية والملابسات الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية ومن هنا فإنه لا يمكن الحديث عن هوية جنوبية جاهزة وثابتة إلى الأبد.
8. ولعل من أعجب وأطرف ما شهده تاريخ الهوية الجنوبية هو إن ذلك التصاعد والتنامي المذهل والمثير للدهشة في التعبير عنها والتعلق العجيب بها قد تجلى في مرحلة الانتكاسة والهزيمة التي تعرض لها الجنوب بعد حرب 1994م حيث تصاعد التعبير عن التمسك بتلك الهوية في أزهى لحظات المقاومة السلمية الجنوبية، وهو ما سنتوقف عنده في مكان آخر من هذه الدراسة.
لقد ظل الجنوبيون طوال فترة ما قبل 1990 يقدمون أنفسهم كيمنيين في جميع المحافل الإقليمية والدولية وفي كل المناسبات الرسمية وغير الرسمية ، كما في الملتقيات الاعتيادية الشعبية، ولهذا مبرراته المرتبطة بحب الوطن والتاريخ والإنسان وبما أسميناه بـ”الإرادوية” والاندفاع العاطفي وثقافة “حرق المراحل” التي رافقت مرحلة المد القومي العروبي، وتحويل التمنيات إلى شعارات ظل الكثيرون من حملتها يعضون عليها بالنواجذ، لكن عند ما تكشفت الحقيقة بعيد العام 1990م وبالذات بعد 1994م اكتشف الجنوبيون أن حلم “الهوية اليمنية الواحدة” كان مجرد شعارٍ سياسيٍ عابرٍ، وفي أحسن الأحوال أمنية طيبة ونبيلة لم تتوفر لها مقومات جاهزة أو حتى قابلة للولادة والاستنبات على أرض الواقع بل لقد تحول هذا الشعار النبيل لدى الجنوبيين إلى أداة من أدوات محاولة مسخ واقتلاع لهويتهم الأصلية وعامل من عوامل إكراههم على تقبل هوية ليست بالضبط الهوية التي حلموا بها، وهي هوية لا توجد أصلاً في سياق الحياة اليومية حتى لأصحابها، وهذا ما سنتناوله في موقعٍ آخر من هذه الدراسة.
مقاربات في إشكالية الهوية (9)
حقيقة الهوية اليمنية
كانت مفردة اليمن على مر التاريخ الغابر والوسيط وحتى الحديث، كما أشرنا سابقاً، تعبر عن كلما يقع جنوبي الكعبة من الأراضي والبلدان منذ ظهور الديانة الإبراهيمية الحنيفية، التي اتبعها العديد من الأقوام واعتبرت الكعبة مذ ذاك بجانب قيمتها الدينية والروحية العظيمة معلماً جغرافياً وتاريخياً مهماً، ومن ثم صارت منطقة شبه الجزيرة العربية (التي تشمل ما بين البحرين الأبيض شمالا والعربي حنوباً وما بين البحر الأحمر غربا والخليج العربي شرقاً) صارت تنقسم إلى قسمين أساسيين هما اليمن والشام، والأولى تعني في القاموس القديم، وخصوصا في كتابات الرحالة الإغريق، كل ما يقع جنوب الكعبة والثانية تعني كل ما يقع إلى شمالها (أي شمال الكعبة)، وهو ما يعني أن التسميتين لم يكن لهما أي مدلول سياسي على مدى عشرات القرون منذ يوم استخدامهما من قبل المؤرخين والإخباريين والجغرافيين حتى بداية القرن العشرين.
ولقد شهدت المنطقة التي نحن بصددها (اليمن) عدداً من الحضارات والدول والممالك والإمارات، التي كان لكل منها اسمها المميز ونطاقها الجغرافي وتاريخها المعروف ومعالمها الحضارية والثقافية وعلاقاتها الخارجية وحروبها ونزاعاتها وصداقاتها وتحالفاتها، لكن أيا منها لم يكن اسمها دولة اليمن، ولم تضف لها مفردة اليمن، إلا عند ما تناولها المؤرخون والمستشرقون والرحالة، وكانت المفردة تعبر عن الموقع الجغرافي ولا تعبر ولم تعبر قط عن دولة أو كيان أو هوية سياسية أو وطنية معينة، حينما لم يكن مفهوم الوطن قد ظهر إلى عوالم اللغات وقواميسها، فلم تكن مملكة سبأ مثلاً، تسمى المملكة السبأية اليمنية، ومثلها مملكة أوسان وقتبان وحمير ومعين وحضرموت وقبلها عاد وثمود ولا حتى الدول والدويلات اللاحقة بعد ظهور الإسلام، مثل دول الزياديين واليعفريين والصليحيين والطاهريين والقاسميين والنجاحيين وغيرهم لم يضيفوا اسم اليمن إلى أسماء دولهم ودويلاتهم، ولم تدخل مفردة اليمن في اسم الدولة إلا في عصر الإمام يحيى حميد الدين في الربع الأول من القرن العشرين عندما غير اسم مملكته من المملكة المتوكلية الهاشمية إلى المملكة المتوكلية اليمنية.
وفي الوعي الشعبي الجنوبي عموماً، منذ زمن ما قبل اتحاد الجنوب العربي، كانت مفردة يمني تعني كلما ينتمي إلى المساحة الجغرافية الواقعة تحت سيطرة الإمامة المتوكلية، وحتى عند ما كان الساسة الجنوبيون يتحدثون عن جنوب اليمن، كانت الطبقة السياسية في الشمال ومعها معظم السكان تسمي الشمال بـ”اليمن”، وتسمي الجنوب بالـ”جنوب” وأحيانا جنوب اليمن، وليس صدفة أن يسمي السبتمبريون جمهوريتهم التي تمخضت عنها ثورة 26 سبتمبر بـ”الجمهورية العربية اليمنية” وليس ( الجمهورية اليمنية الشمالية) بينما سمي النظام الجنوبي بعد الاستقلال الدولة الوليدة بـ”جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية”.
ولعل ما يزيد البحث في قضية الهوية تعقيداً في الحالة اليمنية يكمن في ظواهر وتعقيدات إضافية أخرى قد لا توجد إلا في القليل من بلدان العالم، وأهم هذه الظواهر ما يتعلق بالانقسام الرأسي والانقسام الأفقي للمجتمع اليمني في ما يخص مكونات الهوية وما يترتب على هذه الانقسامات من تبعات تعيق من أسباب تكون هوية يمنية جامعة لكل أبناء اليمن أو لسوادهم الأعظم على الأقل، ومن هنا تبرز الصعوبة في دراسة وتحليل الهوية اليمنية والحديث عنها.
لقد كان من الممكن أن تمثل ثورة 26 سبتمبر وقيام النظام الجمهوري في اليمن، مدخلاً لتحولات بنيوية تسمح بإحداث اندماج اجتماعي يزيل الفوارق  التراتبية التقليدية بين أفراد وجماعات المجتمع مما يفتح الفضاءات أمام نشوء هوية يمنية جديدة تكون أكثر اتساعاً لتستوعب جميع اليمنيين أو سوادهم الأعظم، بيد إن قيام “الجمهورية العربية اليمنية” وحده مع بقاء العلاقات التقليدية واحتفاظ النظام القبلي بكامل تراتبيته وبقاء العادات والتقاليد المعيقة لقيام دولة مدنية حديثة، واستغراق الجمهوريين في الحرب الأهلية لقرابة عقد من الزمن، ثم عودة هيمنة القبيلة من جديد على مقابض السلطة ومراكز صناعة القرار بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، كل هذا جعل استبدال النظام الملكي بنظام جمهوري مجرد تغيير شكلي لم يُحدِث إلا قليلاً من التحولات التي جعلته لا يختلف عن نظام الإمامة إلا بشكله واستبقى الكثير من العناصر الهيكلية والبنيوية المجتمعية الموروثة من عهد الأئمة، كما عجز عن إجراء تغييرات نوعية في الثقافة المجتمعية، وباتجاه إزالة الفوارق الطبقية والفئوية بين أبناء المجتمع وشرائحه ومكوناته الاجتماعية والقبلية والجهوية، رغم أن مبدأ إزالة الفوارق بين الطبقات كان مبدأً رئيسياً من مبادئ ثورة سبتمبر.
وهنا لا بد من الإشارة إلى إن التضحيات التي قدمها اليمنيون في الشمال والجنوب من أجل انتصار النظام الجمهوري في اليمن والأعمال البطولية التي خاضها المقاومون في التصدي للتخريب ولمحاولات أنصار الملكية الإمامية العودة إلى الحكم في صنعاء، والتحولات التي أجرتها ثورة سبتمبر في مجالات التعليم وتحديث الطرقات وبناء الخدمات الطبية وفتح الأبواب للاستثمارات الرأسمالية وغيرها، هي محل تثمين عالي من قبل الدارسين والمحللين السياسيين والتاريخيين، لكن ما فشلت فيه الثورة والجمهورية هو استبدال التقاليد الملكية بتقاليد تستلهم روح الثورة والجمهورية وتخرج بالمجتمع من تراتبية الشيخ والرعوي والسيد والعبد، والمتبوع والتابع، لتهيء لمجتمع مدني حداثي عادل يكفل الحد الأدنى من المواطنة المتساوية وتوطين روح المؤسسية والقانون والنظام.
بل إن الكثير من المؤرخين والباحثين يذهبون إلى أبعد من ذلك، فيرون أن التحولات في مجال التعليم والخدمات العامة كان يمكن أن يقوم بها ورثة الإمام أحمد لو بقيوا في الحكم بعد مقتله ولو لم تتم مطاردتهم وإخراجهم من البلد وشيطنتهم ونزع الجنسية اليمنية عنهم.
وبالعودة إلى ما سبقت الإشارة إليه عند تناول الهويات الصغرى والهوية الكبرى، وتلك الهويات الداخلة في تكوين الهوية الواحدة، فإنه يمكن القول إن الهويات الصغرى المكونة للهوية الأم في الجمهورية العربية اليمنية قد ظلت وما تزال أكثر حضوراً من الهوية الأم، وبمعنى آخر إن اليمن لم تشهد تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية وخدمية تعمق مفهوم الهوية الواحدة، فقد كان وما زال شيخ القبيلة وزعيم العشيرة وعاقل الحارة أكثر حضوراً وسطوةً من مأمور الشرطة أو قاضي المحكمة ومدير المديرية وحتى من محافظ المحافظة، ونظراً لضآلة الخدمات المكفولة من الدولة واعتماد المواطنين على مجهوداتهم الفردية فقد تضاءل حضور الثقافة الجماعية والحرص المشترك على المصالح المشتركة، وربما كانت مصالح أفراد القبيلة وعلاقتهم ببعضهم وبقبيلتهم وبشيخهم أعمق وأقوى من المصالح التي تربطهم بالوطن والدولة.
ويمكننا اختصار المشهد بالإشارة إلى تعدد الهويات أفقيا ورأسيا في اليمن، فهناك الهويات القبلية المتجاورة أفقيا والتي يصعب اختراقها (في كثير من الأحيان) من قبل الهوية الأم فالقبيلة المغلقة على أفرادها بزعامة شيخها وما دونه من مشائخ العشائر والأفخاذ، تمثل مؤسسة منفردة بحالها لا تكاد تقترب الدولة منها إلا عند جمع الضرائب والواجبات (الزكوات) وتجنيد الأفراد للحروب، وهي وظائف لا تنفذها الدولة بمنأى عن تدخل الشيخ والمشائخ الأدنى ومساعدتهم مقابل حصولهم على نصيبهم من المكافآت.
وهذه الصورة منتشرة بوضوح أكثر في مناطق اليمن الأعلى (ذمار، صنعاء، وخولان، مناطق حاشد وبكيل ونواحي صعدة وحجة والمحويت )، وقد عرف العالم عشرات الحالات التي صعب على الدولة الوصول إلى مطلوبين للعدالة سواء على خلفيات جرائم تقطع أو إرهاب أو خطف أجانب أو قتل عمد أو اعتداءات على مراكز وسلطات حكومية وموظفين حكوميين، وبدلاً من القبض على أصحاب هذه الحالات وتقديمهم للقضاء لإدانتهم أو تبرئتهم، يستعاض عن كل هذا بالتحكيم القبلي وما يسمى بالـ”الهجر” وأقسى وأقصى العقوبات فيه تكون نحر عدد من الأبقار أو الأغنام، وتقديم الأسلحة الرشاشة والذخائر ودفع الديات، من قبل المتهم المدان للمجني عليه أو عليهم.
أما في حالات اختطاف الأجانب فإن الجاني يحصل على مكافأة تتمثل في (الفدية) التي تقدم له إما من قبل بلد وسفارة المخطوف، أو من قبل الدولة وقد تصل إلى عشرات وأحياناً مئات الآلاف الدولارات أو مئات الملايين من الريالات اليمنية، فيغدو الخطف والتقطع من أكثر الحرف والمهن إدراراً للأموال.
هذا النوع من التراتبية وما تتخلله من العلاقات، ينتشر أيضا في مناطق اليمن الأسفل (تعز وإب  وما جاورهما) والمناطق الساحلية (تهامة) وجوارها، لكن طغيان الشيخ والعاقل، فيها يكون غالباً أقلَّ حِدَّةً وليس منعدماً كما قد يتصور البعض.
وهناك التراتبية الرأسية (من الأعلى إلى الأسفل) التي تجعل طبقات وفئات اجتماعية مختلفة جوهرياً عن طبقات وفئات اجتماعية أخرى، فهناك طبقات وشرائح اجتماعية لا يمكن أن ينطبق عليها القانون والنظام، ويعتبر أفرادها مجرَّد أن يطلب من أحدهم الامتثال للقانون، إهانةً لا يمكن السكوت عنها، كما يعتبر الاستدعاء من قبل المحكمة أو النيابة العامة أو مركز الشرطة تطاولاً على مركز الفرد ومقامه، تترتب عليها تبعات لا تحمد عواقبها تجاه من يرتكب مثل هذا  العمل (المشين في نظرهم)، وكان كاتب هذه السطور شاهداً على إحدى الحالات، عندما كنت وأسرتي عائدين من محافظة عمران، بعد أن شاركنا في إحدى الفعاليات الجماهيرية هناك، وكان يصاحبنا شابان من أبناء عمران بسيارتهما، وعند ما وصلنا إلى نقطة اسمها “الأزرقين” وهي الفاصلة بين محافظتي صنعاء وعمران، وكان هناك طابور سيارات ربما يبلغ ما فوق المائة سيارة تراكمت بسبب روتين التوقيف والتفتيش، عندما سمعنا ضجةً وصخباً وصياحاً وتهديدات عند النقطة التي لم يكن يفصلنا عنها إلا أربع أو خمس سيارات، وقد تبين أن مرافقي أحد أبناء المشائخ، وكان بعدنا بعدة سيارات يصرون على فتح طريق خاص بالشيخ ابن الشيخ ومرافقيه، في حين كان رجال النقطة يطلبون منهم الانتظار حتى استكمال عملية التفتيش لما تبقى ممن السيارات ومجيئ دورهم، وفجأةً شاهدنا موكباً يتكون من صالون آخر موديل وعدد من الشاصات المحلمة بالمسلحين، يمر مسرعاً من يميننا شاقاً طريقاً ترابياً متجاوزاً النقطة وطابور السيارات المنتظرة، وقد عرفت من الزملاء المرافقين أنه ابن الشيخ الذي دخل في الخلاف مع أفراد النقطة، فلم يكن بمقدوره أن ينتظر مثل بقية الناس ولا إن يخضع للتفتيش حتى وهو في طريقه الخاص، كما لم يكن بإمكان أفراد النقطة ولا قائدها توقيف ابن الشيخ ومرافقيه للتفتيش مثله مثل بقية المارة وعددهم بالمئات.
وهكذا فهناك فئات اجتماعية لا يعرف أفرادها معنى الامتثال للقانون أو السلوك كما يسلك بقية أفراد المجتمع، فلا يمكنهم  القبول بالاستدعاء إلى مركز الشرطة أو الدخول إلى قاعات المحاكم حتى وإن خالفوا القانون أو ارتكبوا جنايات أو جرائم جسيمة بما فيها جرائم القتل العمد، وهذه الفئات هي صاحبة النصيب الأكبر من الثروة الاجتماعية والحصة الكبرى في صناعة القرار السياسي، بينما هناك أفراد وجماعات لا يعرفون ما معنى الثروة الاجتماعية ولا ما هي حقوقهم التي يفترض أن يكفلها لهم القانون وتحميها لهم الدولة وهؤلاء هم الأكثر تعرُّضاً للتهميش والاستبعاد والحرمان وفي كثير من الأحيان للقمع والتنكيل عند أبسط الأسباب وأحيانا بلا أسباب، أو لأسباب لا يتقبلها العقل والمنطق مثل أن يعصي أحدهم أمر الشيخ فيزج به الشيخ في السجن وقد ينساه فيقضي عقوداً وربما العمر كله في السجن.
إن التغيير الذي أجرته ثورة سبتمبر على منظومة وبنية المجتمع اليمني يشبه أن يسعى أحدهم لتغيير منزله المكون من طوابق متعددة والمهدد بالانهيار بسبب أساسته المختلة، فيقوم بنسف وإعادة بناء الطابق العلوي من المبنى متعدد الطوابق، والإبقاء على بقية الطوابق بكل ما فيها من عيوب ومساوئ يفترض أنها كانت المستهدفة بعملية التغيير.
إن الحديث عن الهوية اليمنية الواحدة لا يمكن أن يعني شيئا ما لم يقترن بالحديث عن التحولات الجوهرية التي كان على ثوار سبتمبر ومن تولى الحكم بعدهم أن يقوموا بإحداثها أولاً في الوعي الاجتماعي على النحو الذي يزيل خرافات التفوق الجهوي أو القبلي أو التميز في الموقع الاجتماعي، وفي التراتبية الاجتماعية، والذي من المفروض أنه كان يستهدف بناء وعي جديد قائم على غرس مفاهيم المواطنة الواحدة والمتساوية ، وثانياً ربط كل هذا بما يفترض أن تنجزه الثورة والثوار من حيث بناء منظومة حقوقية وقانونية تستهدف ترسيخ مفهوم الدولة والقانون والحياة المؤسسية في كل ما له صلة بحياة المجتمع وعلاقة أفراده ببعضهم وبمؤسسة الحكم، واقتلاع العشوائية والهمجية وعلاقات ما قبل الدولة وما قبل المواطنة، وهو ما أخفقت فيه ثورة 26 سبتمبر حتى بعد 57 عاماً على حدوثها.
كل ما قيل أعلاه لا بد أن يفهم على إن الهوية اليمنية القائمة اليوم تفتقد إلى الكثير من عناصر قيامها وثباتها ورسوخها، فإذ يمكن الحديث عن النطاق الجغرافي الواحد وشيء من الذاكرة التاريخية لمراحل متقطعة من عمر الإقليم، وثقافات شعبية متفاوتة وأحيانا متنافرة، فإن أهم عناصر الهوية، وهو وحدة المصالح ووحدة الحقوق والواجبات التي يفترض أن تتجسد من خلال القانون والمواطنة الواحدة ما تزال غائبة وبدونها تظل الهوية عرضة للاهتزاز وقابلية الضمور والتفكك.
وهكذا  يظل التغني بالهوية اليمنية الواحدة، بمشاركة الجنوب أو بدونه، أشبه بالتغني بكائن خيالي لا وجود له على أرض الواقع، ويبقى منحصراً في أحاديث إعلامية وفي أحسن الأحوال تمنيات حسنة النية لا تقوم على حقائق حية لها تمثلاتها وحضورها في حياة الناس،  ليس فقط بسبب اختلاف طبيعة المعايير بين الشمال والجنوب فحسب بل ولانتفاء وجود مقومات وشروط متكاملة لهوية يمنية واحدة حتى على مستوى الشمال وحده.
وللحديث بقية.