fbpx
الفنان محمد مرشد ناجي في حوار مع “الجمهورية” الحلقة الثانية
شارك الخبر

يافع نيوز – متابعات

حاوره  مهدي علواني المشولي:

في الحلقة الأولى تحدث الفنان المرشدي عن ميلاده وطفولته وعن حنان الأم وفقدانه بفقدانها وهو مازال طفلاً يتحسس معالم الطريق عن دراسته ومصاعبها عن الأصدقاء والوفاء .. وعن الظروف التي كانت إبان الاحتلال الانجليزي في عدن ومسألة التعليم وفق هذا وذاك عن الإرادة والتصميم لمواصلة الدراسة برغم كل ظروفه واهتماماته الرياضية ولقبه الذي جاء من شهرته فيها.

مترجم بين الأطباء والمرضى

من الطبيعية ان دراستي البسيطة المستوى السنة الأولى المتوسطة على متاعبها ما كانت لتؤهلني للعمل ككاتب في الدوائر الحكومية أو غيرها ولكن تصميمي على بلوغ ذلك الهدف غدا مما لا تراجع فيه مهما كانت الصعاب .. وفي أثناء ماكنت وأصدقائي في مكتب السيد صالح حسن تركي نتناقل خبر ما بيننا عن حاجة مستشفى الجيش الهندي المسمى آنذاك 13.G.H  لممرضين من مواليد عدن وان الناجحين من المتقدمين سوف تقام لهم دورات تدريبية تؤهلهم لتسلم إدارة المستشفى بعد خروج الجيش الهندي من عدن وعند تسليم المستشفى للجيش العربي الذي كان يسمي جيش محمية عدن ADEN PROTECTORATELEYIES.وتحمس الأصدقاء جميعاً للتقدم للعمل في التمريض وكنت أكثر حماساً منهم لأن باباً ولو ضيقاً قد انفتح للحصول على شهادة قد تساعد مستقبلاً على تحقيق الحلم وفرصة لممارسة اللغة الانجليزية على صعيد التخاطب مع الآخرين وشاء الحظ ان نفوز جميعاً لسهولة اختبار القبول ولم أنم ليلتي تلك من الفرح وشعرت بأنها لفتة كريمة من المولى عز وجل هيأت للمتاعب ولا أنسى موجة البشرى الطاغية التي غمرت وجه ابي وهو يعلم بنبأ تعييني في القسم الخارجي للقيام بالترجمة بين المرضى والطبيب ثم كنا نذهب إلى قاعة المحاضرات لتلقي دروس في فن التمريض وكنت سعيداً بالعمل للفائدة اللغوية التي اكتسبها ولكوني قانعاً بالراتب الضئيل الذي أتسلمه في نهاية كل شهر وأحاول جاهداً ان ادخر جزءاً منه وادخر معه أجزاء كبيرة من الآمال في المستقبل .. ولكن الحظ الذي ابتسم لي منذ فترة قصيرة استكثر علي تلك الابتسامة فبدأ يلُّم شفتيه ويميل وجهته عني.

زواج مبكر

* في ذات ليلة استدعاني أبي وقذف في وجهي برغبته الجامحة في تزويجي جرياً على عادات الآباء في تلك الأيام وعندما لمس بروداً أمام رغبته أخذ يؤكد انه يريد ان يفرح بزواجي، زواج ابنه الوحيد قبل موته وذلك دين في رقبته عليه الالتزام بالوفاء به فهززت رأسي موافقاً غير مدرك خطورة الدور الذي سوف أؤديه وأنا مازلت ابن ستة عشر عاماً .. لقد صور لي عقلي الصغير يومها أن الأمر بسيط ولاسيما ان فيه إرضاء لأبي الذي أحبه وأجل كل مواقفه الجادة في سبيل مصلحتي بقدر استطاعته .. أقام لي أبي حفلة عرس (مخدرة) آملاً بأن يكفي دخلها تكاليف الزواج وزيادة وكانت (المخدرة) (أيام زمان)ومازالت في الريف الجنوبي مشروعاً اجتماعياً عظيماً في عدن يتعاون الجميع في إقامتها وخاصة أهل الحارات المجاورة فيمدون صاحب (المخدرة) بلوازمها ويفدون (للنقط) ويقيد مقيم (المخدرة المبالغ المدفوعة له من غيره ديناً عليه يدفعها لهم في نفس المناسبة إذا يقيمون (مخادرهم) ولقد تعطل إقامة مثل هذا المشروع العظيم في عدن في الستينيات عندما تحولت حفلات الأعراس لأغراض أخرى غير الزواج حين غدا الداعون لا يقومون بوفاء الدين الذي عليهم أما في الأرياف فمازالت التقاليد القديمة باقية على عهدها بكل مافيها من صدق الاحتفال بالزواج والأمانة في المديونية المتبادلة بكل شرف ووفاء وإسهاماً في الأفراح.

رياضي وعريس

في ذات ليلة شعرت بنفسي أمد يدي للمأذون وأردد معه كلاماً لا أدرك مسئوليته وتمر الأيام سريعة وإجراءات العرس تسير على قدم وساق وإذا بي أعود بعد عصر أحد الأيام من ميدان كرة القدم وكنت وقتها قد انضممت إلى الفريق الثاني في نادي الشبيبة المتحدة المعروف (الواي) وحقق هذا الفريق نتائج مبهرة على الصعيد الكروي على مستوى فرق الدرجة الثانية في المستعمرة وحققنا لأول مرة الفوز بالترس للدوري وكان يقال إذا دخل الهدهد الشيخ عثمان بايدخل الترس إليها.

وإذا بي أعود كما قلت من الميدان لأجد الترتيبات تجري لتكون ليلة الغد هي ليلة زفافي على فتاة من _حافة حسين) في كريتر كنت قد رأيتها بالمصادفة من قبل عندما كانت تأتي بين الفينة والفينة لزيارة أمها في الشيخ عثمان وكانت تسكن على مقربة منا وكنت بلا تحفظ بحاجة لها وخاصة للفراغ العاطفي الذي كنت اعيشه ولهروبي من مغازلة أية فتاة وامتناعي عن معاشرة أية امرأة من المومسات من كل لون اللاتي كن يسكن في مدينة الشيخ عثمان وذلك بسبب نشأتي الدينية وغيرتي الكبيرة على سمعتي في المجتمع ( المزيد من التفاصيل عن المكومسات في الشيخ عثمان انظر كتابي أغنيات وحكايات وفي الليلة التالية – ليلة الزفاف – ارتديت ملابس جديدة صارخة الألوان و(المشدة المزركشة) والحذاء الذي يئز أصواتاً _زيط ميط) صناعة عبده الزبيدي المحلية وتمنطقت بالسيف وركبت إلى جانب سائق السيارة مع أهلي وكان يوضع ستاراً خلف السائق حتى لا يرى المقعد الخلفي الخاص بالنساء، كان خلفي رتل من السيارات تطلق زماراتها المزعجة لتعلم الناس بطريقة مقززة بنبأ زواجي الطفولي إذا جاز التعبير عدت إلى البيت ثانية من مدينة (كريتر) بعد أن تمت الطقوس المرهقة حاملاً عروستي وجلست إلى جانبها في البيت أغالب الخجل بعنف مطرقاً برأسي إلى الأرض أفكر بالمغامرة الخطيرة المقبل عليها مع عروستي الصغيرة وكلانا في الهوى سوى.

حكاية أهل العروس والعريس

ودخل علينا أهلي وأهلها ووضع وعاء غسل الرجلين (صحفة التصبين) تحت ارجلنا وقام أهلي برفع (الفوطة) – الازار – عن ساقي وبالمثل قام أهلها برفع حافة ثوبها بدورهم ووضعت رجلانا في وعاء الغسيل لغسلهما وقام شجار عنيف بين أهلي وأهلها وكل فريق يصر على ان يرفع ربيبة قدمه فوق قدم الآخر في أثناء الغسيل، وفي النهاية قام أهل الخير من غير الأهل بالتوسط بين الفريقين على أن تتساوى قدمانا ويصب عليهما الماء بالتساوي وكانت هذه عادة مطروقة قبيحة في بلادنا وقتذاك قلما يخلو منها عرس وتدل على ان القدم العليا يكون لها السمع والطاعة والأمر والنهي في شئون الحياة الزوجية والسفلى الرضوخ والطاعة وتنفيذ الأوامر عرفاً.

وانفض الجمع وبقيت امرأة معنا عرفت من أختي الكبيرة انها (المكدية) ومهمتها الإشراف الكامل على (المغامرة) من كافة الوجوه وبالنسبة لحالي وحال عروستي كان لوجود هذه المرأة ضرورتها في تسهيل اقتحام المغامرة وعندما أطلقت زغرودتها وقام من في البيت من النساء من أهلينا اللاتي تظاهرن بالنوم اطلقن بدورهن زغاريدهن معها تجاوباً مع (المكدية) وكانت المرأة (المكدية) تلوح بقطعة قماش تدل على نجاح المغامرة وصدق عذرية العروسة.

طفل صغير لطفل كبير

حملت فتاتي المسكينة من ليلة الزفاف بطفل صغير لطفل كبير لم يدرك مسؤولية الزواج وأعباءه الجسام، واستمر عملي واستمر لعبي لكرة القدم ومعاشرة الأصدقاء ولم يتغير شيء من حياتي فقد ظلت كما كانت قبل الزواج وفوجئت في الأشهر الأخيرة من نفس العام بنقلي من العيادة الخارجية إلى العمل في عنبر الأمراض السرية وهناك شاهدت من ألوان العاهات والآفات المرضية المقززة للنفس ما مازلت أعاني من تذكري إياه حتى يومنا هذا.

وحاولت متصلاً بقيادة المستشفى راجياً نقلي إلى أي مكان آخر لأن نفسي ماكانت لتطيق رؤية تلك المناظر غير أن محاولاتي لم تنجح وخيرت بين الامتثال للأوامر والاستقالة واخترت الأخيرة.

الاستقالة والضياع من جديد

تركت المستشفى لأجد نفسي في الشارع من جديد، لكن كنت أنوء بمسؤولية تثقل كاهلي وتطوق عنقي انني بدون شهادة مدرسية تؤهلني لوظيفة كاتب بسيط في الدوائر الحكومية هذا بالرغم من قناعتي بأنني أحسن حالاً لغوياً من كثيرين من الموجودين في تلك الدوائر الحكومية وبالمناسبة كان صالح حسن (معلمنا) عندما كنا ندرس في مكتبة إذا زاره واحد من أولئك (الكرانيات) مصادفة في أثناء قراءتنا  للدروس الانجليزية يدعي بانشغال فيعتذر الرجل ويقول: إنه بمروره رأى أن يسلم على الأستاذ ويمشي وكان شيخنا يفعل ذلك مع كثيرين ويضعهم في احراج قاتل وخاصة (كرانيات) البلدية التي مقرها في نفس شارعنا وكان يسميهم (كرانيات خديجة بنت أحمد) لأنهم في رأيه لا يعرفون من اللغة الانجليزية شيئاً إلا حروفها ليكتبوا بها أسماء المواطنين كل ذلك كان يفعله شيخنا ليثبت لنا أن ما نعرفه لا يعرفه هؤلاء وانه مخلص في تعليمنا.

الطلاق المؤقت

ومر شهر وخرج طفلي إلى الحياة عام 48 اسميته (عليا) وتبعت ميلاده أشهر كل يوم فيها يعادل دهراً من الشقاء والأعمال صعبة المنال وخاصة لمن لا يحمل مؤهلات مثلي والمشكلة شديدة الوطء للزوم الحاجة إلى وسطاء في دنيا الوظيفة وكانت تلك هي حال عدن في تلك الأيام وما بالك بالفقير الذي لا يمكنه الحصول على نوعية خاصة من الوسطاء لأن الهنود يهيمنون على كل شيء وفي أثناء تلك الظروف من العيش المضني حدث شجار بيني وبين أم ابني ودخل العناد والشحاري بيننا فسرحتها بطلقة واحدة على أمل العودة بزوال السبب الذي كان بسيطاً للغاية.

السفر إلى الظهران

في هذا الوقت ذاته طرق سمعي أن الشيخ عبدالله بارحيم يطلب عمالاً وحرفيين وكتبة للعمل في (الظهران) – المملكة العربية السعودية وحملت نفسي إلى مكتبة في كريتر وقدمت الطلب بدون وساطة وحدد لي موعد الاختبار ولم أسأل عن الشهادة المدرسية ولاغيرها وحمدت الله على ذلك وتفاءلت خيراً كان الاختبار سهلاً وحالفني النجاح وسافرت إلى (الظهران) مع مجموعة كبيرة من أبناء عدن والفرحة تغمر كياني لأني اصبحت (كراني في بلد بعيد والفرحة الأخرى أنني اركب طائرة لأول مرة في حياتي غير شاعر بالمأساة التي صنعتها بتسريح أم ولدي وكان الأمل يغذي شعور الفرحة في كل كياني هو أنني سأحصل بعد انتهاء التعاقد هناك على شهادة (كراني) من شركة (أرامكو) الأمريكية تفتح لي أبواب دنيا الوظيفة في بلدي ( وأن .. يابلدي) ولكن ما أقسى الحياة في معاركها معي لقد تفرغت لمحاربتي واصبحت تتلذذ بزرع الشوك في طريقي فما ان استقرت بي الحال هناك في (الظهران) مستفيداً من عملي الذي عينت فيه في الشركة حتى شعرت بعد اشهر بان جسمي الهزيل ينهزم أمام الصحراء التي أعدت لنا فيها خيام نسكنها وأنابيب غاز لنطبخ طعامنا عليها وبدأت أشعر بحرارة متقطعة تداهم جسدي الضعيف وبضعف  شديد في ركبتي يمنعني من السير مسافة طويلة وشعرت بنفرة أسفل كتفي المسماة في عدن (المتنة) كانت تطعنني بعنف عند التنفس وفي المستشفى الذي كان يديره الأستاذ المرحوم أحمد حامد خليفة فحصني الطبيب وناولني بعض الأدوية ونصحني بالتزام الراحة في خيمتي وبقيت أتردد على الطبيب والقول هو القول والإجازة المرضية وشعرت بان صحتي تتدهور إلى الأسوأ وازددت نحولاً فوق نحولي فقررت الاستقالة وحزمت حقيبتي وعدت إلى بلدي لاجالد الحياة بين أهلي واحبابي وكانت العودة بأوراق مالية قليلة وبكمية ضخمة من الآلام ولكن على الرغم من ذلك كنت أحس بالراحة إذا تذكرت اني امتلك شهادة (كراني) جيدة من شركة عالمية ولو انها عن مدة ستة أشهر فقط مما قد لا تعطي انطباعاً جيداً مكثت في بيتي الشعبي المتآكل داخلياً وخارجياً الذي لم يترك لي سياق الاحداث حيزاً لوصفه لزمت الراحة فيه لشهر التقطت فيه انفاسي واستعدت شيئاً يسيراً من صحتي واعددت نفسي من جديد على السير في الدرب الشاق الطويل لتحقيق جلوسي على مكتب (المكرانه) في اطمئنان.

مرض الصالحين

تقدمت بطلب عمل لدى جيش محمية عدن بعد اتصال بالضابط الكبير الشهم السيد حسن أحمد حسن بواسطة الصديق ناصر محمد باشجيرة ونجحت في الاختبار وتناولت أوراق الفحص الطبية وأخذت لي صورة بالأشعة وعند عودتي لمعرفة النتيجة كان القدر يعد لي صدمة مدمرة إذ اخبرني الطبيب انني مصاب بالتدرن الرئوي ويعني ذلك عدم لياقتي للعمل.

أخذت صورة الأشعة إلى الدكتور كوكرين مدير المستشفى الحكومي المختص بهذا المرض وقبل مجيء الدكتور كوكرين إلى عدن كان المرض السل يسمى (بمرض الصالحين) يرمي صاحبه في مبنى صغير يسمى (الكرنتينه) العزل الصحي بجانب بستان (الكمسري) في الشيخ عثمان كي لا يعدي بمرضه الآخرين من أهل بيته إلى أن يقبضه الله إليه والتقيت الدكتور كوكرين وكان رجلاً ضخماً فقال لا يوجد حالياً سرير في العنبر وعليك أن تبقى في بيتك ريثما أجد لك سريراً وان تلتزم بعدم الخروج من البيت وكان يعودني في البيت كلما سنحت الفرصة وفي الأيام الأخيرة من عام (48) نقلني إلى المستشفى لأمكث فيه عاماً كاملاً والسبب ان الطب حتى ذلك الوقت لم يكن قد اكتشف الدواء لهذا المرض وانما كان الدكتور كوكرين باجتهاده أو باجتهاد غيره يلزم المريض بالراحة التامة على السرير مع تناول ملعقة من بيت كبد الحوت الصيفة ثلاث مرات في اليوم مدة أشهر عديدة ثم يرسل لعمل صورة بالأشعة وهكذا إلى أن يتم شفاؤه وبهذا العلاج البدائي انقذ الدكتور كوكرين حياة المئات من البشر من هذا المرض في عدن وأنشأ هو والشيخ الفاضل علي اسماعيل تركي (جمعية مرضى السل) لمساعدة المرضى الفقراء مادياً في أثناء فترة العلاج الطويلة وكنت أحدهم وبالفعل فلقد كسا جسمي النحيل وعظامي البارزة شيء من اللحم وشعرت بان العافية قد دبت في وجهي المصفر الباهت وأنني انسان جديد بعد ان هدني سوء التغذية والسكن غير الصحي في البيت الذي عشت فيه منذ طفولتي.

التحدي الصعب

خرجت من المستشفى إلى محيطي في الحياة فوجدته كما كان لم يطرأ عليه تغيير مطلقاً وبيدي وصية من أ.د كوكرين إلى من يهمه الأمر بأني قد شفيت من المرض ووصية شفوية منه بأن احافظ على صحتي لمدة خمس سنوات بالراحة المستمرة.

أخبار ذات صله