fbpx
الحراك الشمالي..غاية العصبية الغَلبة

كتب : أمين اليافعي

يحاول عبدالوهاب طواف جاهداً أن يضع حراكه ـ “الحراك الشمالي” ـ في قالب “نيوتني” بحتٍ؛ فلكل فعلٍ رد فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومضادٍ له في الاتجاه. و لسنا هنا بحاجةٍ إلى التأكيد على أن العلاقة بين “الفعل” و”رد الفعل” مختلة كلياً في هذه المعادلة الشمالية الجنوبية سواءٌ من حيث المقدار أو من حيث الاتجاه. فالأول ما زال متمرساً ماهراً بكيفية توجيه الضربات لهدفه (الجامع)، المحدد بدقة، بقوة نافذة في جميع مستوياته ومفاصله؛ بنخبه وعساكره وقبائله ومذاهبه! وآخرٌ ضعيفٌ مضطربٌ إلا من هدفه الأخلاقي، عدا عن كونه لم يخرج بعد، إن وجد هناك ما يمكن أن يؤاخذ عليه حقيقةً، عن ردة الفعل البسيطة والبدائية. ولعل الهوس الذي لا يُقاوم باستدعاء تلك المقولة ـ الميتافيزيقية جداً ـ المتوعدة لـ”صنعاء” من “دثينة” وتصويرها وكأنها أحد قوانين الطبيعة الحاسمة، هو استدعاء لا يُقدّر بثمنٍ بالنسبة لطواف ورفاقه.
ويعود ظهور “الحراك الشمالي” المفاجئ وفي نهاية الفترة الانتقالية الخاطفة برئاسة الجنوبي عبدربه منصور هادي وقبل التوصل إلى اتفاقٍ جدّيٍّ حول ملامح وشكل المرحلة القادمة، وقد نكون أكثر تحديداً بقولنا: دون الاتفاق على رئيس هذه المرحلة، بشكلٍ قاطعٍ، إلى حد الآن. إن هذا التوقيت في الظهور جعلنا نفترض تفسيراً مغايراً لذلك التفسير الذي لم يخرجه عن إطار نزقٍ عارضٍ من ذلك النوع الذي يتبدى لنا دائماً كأحد الصفات الأكثر أصالة وجوهرية في العقلية السياسية الشمالية، على أن حدّه الأقصى لن يتجاوز ممارسة وتكثيف الضغط لانتزاع قدرٍ أكبرٍ من المصالح الشخصية، وفق هذا التفسير (النفعي الخالص).
ولفهم مغزى ما نرمي إليه هنا، علينا أن ندرك الطريقة التي يسير بها التاريخ في هذا البلد خصوصاً فيما يتعلق بجوانبه السياسية والاجتماعية. فمسيرة التاريخ هي أقرب إلى حلقة دائرية مغلقة تتدحرج أفقياً على الخط الزمني حاملةً معها كل بناها وأنسقتها وإشكالاتها، عوضاً عن السير في مستقيمات يتصاعد ميلها نحو الأعلى مع التقدّم الزمني؛ وقد يكون من المفيد في هذا السياق بالذات الحديث عن القوانين الطبيعية!
ولقد حاولت بعض الدراسات (الانثروبولوجية) أن تقتفي أثراً ماركسياً بالنظر إلى التاريخ كصيرورة حتمية للتطور؛ أي أن مجرد السير في الزمن بأي كيفيةٍ كانت هو سير حتمي نحو التطور، ومن ذلك مثلاً النظر إلى القبيلة باعتبارها درجة أدنى في سلم التطوّر نحو الأشكال الأخرى من التجمعات البشريّة ذات العلاقات الحديثة، لكن هذه الدراسات لم تُفلح في تفسير الطبيعة التكراريّة للتاريخ الباديّة بحالةٍ لا أمل من الإفلات منها. فالتطور الحق لا يُقاس بامتلاك تلك الكثرة الكاثرة من الأدوات الجديدة، بل يُقاس بمدى بروز وتحقق وظائفٍ تتسم بالجدَّة والحداثة معاً، على حد تعبير المفكر أبو بكر السقاف، تفضي إلى إسباغ مبادئ جديدة في حقل العلاقات بين الأفراد عوضاً عن تلك التقليدية. فرئيس “الجمهورية” قبيلي، ورئيس “مجلس النواب” قبيليٌّ آخرٌ، والرجل الأول في “الجيش” كذلك، ومن لا ينتمي إلى هذه الدائرة يبدو كـ”أجيرٍ أبديٍّ” حتى وإن بلغت به الرتب (الشكلية) عنان “جمهورية القبائل”. فالأدوات الجديدة لم يُقدَّر لها أن تؤد أيّاً من الوظائف الجديدة في حقل العلاقات بين الناس، بل عملت بنفس آلية الأدوات التقليدية، وربما بمردودٍ أفضل، فالقبيلي لم يعد رمزا في عصبته فقط بل صار رمزاً وطنياً مظفراً! وليس من الغرابة القول في اليمن بأن شخصاً ما برتبة جندي ينتمي إلى قبيلة كبيرة قد يكون أكثر حِظوة ونفوذاً من لواءٍ، فالرُتب والمراتب لا تكمن أهميتها في ذاتها، بل تأتي أهميتها من خارج سياقها تماماً!
وفي النهاية، لم تجد هذه الدراسات، خصوصاً الحديثة منها، بُدّاً من اللجوء إلى “نظرية الدورات” التي صكّها العلامة ابن خلدون لفهم وتفسير ذلك التعاقب بين القبائل والأشكال السياسية الأخرى على مستوى الشرق الأوسط بشكلٍ عامٍ. فمثلما قد تنتهي القبائل والطوائف والأثينيات إلى ممالك أو صيغة قريبة إلى صيغة الدولة في شكلها الغربي، ومن ذلك أن تتعايشان معاً، في بعض الأحيان، لفترات طويلة، فإنها غالباً ما تعود الأمور إلى أشكال قبلية وطائفية وأثنية بصورةٍ لافتةٍ. إن غاية العصبية المُلك كما يقرر ابن خلدون، وليس الحضارة التي لا تكون ضمن الأولويات والمهام العصبويّة عدا تلك التي أفلتت منها عنوةً. وهو ما قد يفسر، في جانب هام منه، تلك الموجات العاتية التي لم ترحم، تبعاً لمحركٍ عصبوي، ثأري في جوهره، أي إنجازات كانت قد تحققت بروحٍ حرجةٍ في بعضٍ من محطات التاريخ الخاطفة، ومنها مثلاً ما حدث للجنوب بعد اجتياحه في حرب صيفٍ 1994م.
في الحالة اليمنية، تشير إحدى تلك الدراسات إلى أن المشكلة عند البعض تكمن بالوقوع في شرك الوهم “بان الدول والقبائل أشياء”؛ وبالتالي تكون النتيجة هي اعتبار الزعماء القبليين الذين يتولون مناصب حكومية جزءاً من الدولة، وعندما ينشقون يُعاد تحديد وضعهم بكل بساطة (وبدون تفسير نظري) بأنهم قبليون؛ وهكذا يتم اقتصار الدولة على الجيش والإداريين فحسب. وعندما تُطل سياسة الثكنات برأسها، فإن أجزاء من القوات العسكرية يتم تحديدها أيضاً على أنها لا دولة؛ ويظهر أن للبيروقراطيين وجهات نظر خاصة بهم؛ وهكذا تتقلص الدولة أكثر فأكثر..ونتيجة لذلك يتراجع مفهومها إلى ما لا نهاية، وتبدو أمام المحلل المتقدّم كما لو كانت موجودة في مكان ما وراء الأكمة التالية، أو في المكتب التالي أسفل الممر. فالدولة، وفقاً لهذه الدراسة، ينبغي النظر إليها ليس باعتبارها كمؤسسة فقط، ولكن كفكرةٍ، في المقام الأول (اليمن كما يراه الآخر: ص246).
في عمق هذا السياق يبدو “الحراك الشمالي” أكثر من كونه محاولة ابتزاز للحصول على منافعٍ شخصيةٍ مؤقتةٍ، أو فعلٍ ضد فعلٍ مقابلٍ بالضرورة. إن الصيغة التي شكّلت النظام السياسي طوال مراحل التاريخ المختلفة، حيث القبائل هي وحدها من تقوم بمهمة تُشكيّل الدول والأنظمة؛ ولعل الشيخ المرحوم عبدالله بن حسين الأحمر، شيخ مشائخ قبائل حاشد، ورئيس مجلس النواب إلى وفاته، كان موفقاً للغاية بتوصيفه للأمر، إذ يقول في مذكراته بلغة قبليّة صارمة: «كان الشعور لدى قبائل حاشد مشائخ وأفرادا أنهم مسئولون عن حماية الثورة وأن الثورة ثورتهم ، وهذا الإحساس تولد لدى حاشد نتيجة لما أصيبوا به عندما استشهد الوالد والأخ حميد وما نالهم من الإهانة والمعاناة، كل هذا أوجد عندهم شعور أن الثورة ما قامت إلا كرد فعل رسمي وشعبي لما حدث وأن أهم عوامل قيامها هو ما حل بحاشد ومشائخها، وانطلاقا من هذا الإحساس والشعور أصبحت لديهم قناعة أنهم مسئولون عن حماية الثورة وأن ذلك يهمهم ويخصهم أكثر من غيرهم. وهذا الفهم كان موجودا لدى بعض الذين كانوا يحاربون الثورة من القبائل الأخرى، حيث كانوا يعتبرون أن الثورة هي ثورة حاشد» (قضايا ومواقف، ص 85-87). إن هذه الصيغة التي يتحدث عنها الشيخ الأحمر بمهارةٍ فائقة لن نعثر على ما هو أمهر منها مهما بلغ الاجتهاد البحثي، قد جعلت من المستحيل أن يقوم هناك نظام سياسي في صنعاء دون أن يرتطم بقوة بإحدى العصبيات الكبيرة المُستبعدة، أو تلك التي لم تنل نصيبها بما هو متوقع. ومن هذه الزاوية، يمكن رؤية “الحراك الشمالي” وأهدافه وغاياته، وبصورةٍ واضحةٍ لن تخطئها العين!
علاوة على ما تقدّم، يمكن الإشارة هنا إلى نقطة أخرى مهمة، و”أخرى” جرى الزج بها هنا وفقاً لِما اقتضاه سياق الحديث، فهي ليس أخرى (مستقلة)، بقدر ما هي متواشجة، وتأتي في علاقة “حاملة” المحمول. فصنعاء العاصمة السياسية قد بدت على الدوام كبيئةٍ مثاليةٍ، وكمسرحٍ دائمٍ، يتم فيه إعادة إنتاج هذه الصيغة بسهولة، والتأكيد عليها، في مراتٍ أخرى، إذا لزم الأمر. فهي، سواءً في وضعها التاريخي الذي جعلها أسيرة أبدية لحصارٍ قبائلي يلفّها من جميع الوجهات ولا سبيل إلى الخلاص منه ولو بسورٍ متينٍ أقامته حولها وأرادت به أن “تحاصر حصارها” لتقي نفسها من افتراس القبائل الأزلي لها؛ فزادت به حصاراً إلى حصارها.. أو في وضعها الحالي، حيث الأفضية العامة والخاصة يتم تشكيلها بصورةٍ غريبةٍ لا تشبهها في ذلك أي مدينةٍ أخرى في العالم، ولا تتناسب حتى مع ظروفها الخاصة. فهي كمدينةٍ، بمساحةٍ محدودةٍ، تحوطها الجبال من جميع الجهات، ومع ذلك، ستجد أكثر ما يلفت انتباهكَ هو ذلك التسابق الشّرِه للتوسع أفقياً في سبيل بناء المنازل الخاصة المنعزلة، بينما غالباً ما تُستخدم البنايات العمودية، القليلة جداً مقارنة بحجم المدينة الكلي، للأغراض التجارية فقط. وفي المنازل الخاصة، المبنية حديثاً، ستجد صورة مطابقة تماماً لصنعاء التاريخية التي تحاول أن تخفف من قلقها بعزل نفسها خلف جدران عالية، فالأسوار التي تحاصر هذه المنازل مبالغٌ فيها إلى الدرجة التي تدعوك إلى الافتراض بأن حرباً عالمية هي على وشك الوقوع في أزقة هذه المدينة!
يشير مايك كرانغ في دراسته الشيّقة “الجغرافيا الثقافية” إلى أن الأماكن باعتبارها “مشاهد” يمكن أن تُقرأ كنصوصٍ يتم التعرف من خلالها ـ بوضوحٍ ـ على معتقدات وعادات الشعوب. إذ للمكان دورٍ حاسمٍ؛ ليس في تشكيل وترسيخ الممارسات والأفكار؛ العادات والتقاليد فحسب، ولكنه أيضاً لأنه غالباً ما يؤوَّل بصفته نظاماُ رمزيّاً تم تشكيله عن طريق قدرات وممارسات ومعتقدات الشعوب ليلائم ثقافتهم الخاصة وأوضاعهم الخاصة كذلك، ويعبّر عن الأيديولوجيات الاجتماعية التي يتم تخليدها وتدعيمها من خلاله (فبتغيّر المعتقدات تتغيّر شكل الحديقة).
وفي أوكار المشهد الصنعاني التليد، الذي أصبح بحكم الضرورة مغلقاً على ذاته، ومحاصراً لها، يصبح من الصعب على المرء تخيّل أن تجري في فضاءه البشري مُخالطات وتعايشات ومثاقفات ذات طابع مدنيٍّ منفتحٍ ومتينٍ، تسمح بتشكيل نمطٍ جديدٍ من العلاقات بين الناس، وبالتالي تتغيّر الشروط السياسية والاجتماعية والثقافية. فالفضاء يقدّم نفسه وكأنه فضاءٌ للتبادل العابر للمنافع، بينما سيعود الجميع في نهاية المطاف إلى ثكناتهم المعزولة عزلاً جيداً. وقد أجاد الباحث الفرنسي ميرميه في تصوير الأمر وهو يتتبع تاريخ هذه المدينة، فصنعاء التي هي فريسة دسمة تشتهيها القبائل دوماً، صارت مناراً مضيئاً تنهار عنده كل المحاولات الرامية إلى إنشاء دولة مستقرة (كومونة صنعاء: ص293).
إن الحضور في معمعات هذا المشهد؛ المخطط بقدرة قبلية خارقة للعادة، هو حضورً قلقٍ، ويصعب أن يكون للمرء هناك وجوداً مطمئناً وموثوقاً به وبدون الانتماء إلى قبيلةٍ كبيرةٍ أو سندٍ؛ تتساوى في ذلك المشاريع الكبيرة، الخاصة والعامة، وتلك المشاريع متناهية الصغر. وليس ما هو أدل على ذلك من صورة “الحزب الاشتراكي” الذي كان ملئ السمع والبصر في عهدٍ سابقٍ، ليس في دولة الجنوب فحسب، ولكن على المستوى الإقليمي، وقد بات هامشياً في صنعاء يبحث له هو الآخر عن “ظهرٍ حاميًّ” ولو بالتحالف مع “أحزاب القبائل” التي بينه وبينها ـ عقائدياً ـ بُعد المشرقين!..وحتى “الربيع الصنعاني” الذي انهمر فجأةً بحشودٍ هائلة، لم يخرج هو الآخر عن شروط صنعاء الحاسمة. فالشيخ حميد الأحمر هو من تكفل بالدعم الاقتصادي، والشيخ اللواء علي محسن الأحمر تكرّم بالتكفل بحماية الثورة على أحسن وجه؛ وحين بلغت القبائل اتفاقها، طويت صفحة الربيع سريعاً، ولم يبق لها أثراً مقارنة بقريناته العربيات؛ حتى وكأنك يا بو زيد ما غزيت!
قبل أشهرٍ من الآن، كانت هناك حادثة شديدة الدلالة، ولم تنل الاهتمام المستحق. وقد كان طرفاها: الشيخ عبدربه العواضي، شيخ قبيلة شديدة المراس، وقيادي بارز في حزب الإصلاح، وعضو “مؤتمر الحوار الوطني” في اللجنة المختصة بدراسة ومعالجة القضية الجنوبية. وشابان من عدن في مقتبل العمر، أحدهما حفيد لرمز جنوبي كبير هو الشاعر لطفي جعفر أمان. كان الشيخ العواضي يسير بسيارته في أحد شوارع صنعاء ضمن موكب زواج قريب له، وبرفقته حراسته المدججين بكل أنواع الأسلحة، وخلفهما كان الشابان يسيران في سيارتهما. ولأنه في مواكب الأعراس تكون الحركة بطيئة، في العادة، حاولا أن يجتازا الموكب، وكما اعتادا أن يفعلا ذلك في عدن، أو في أي مكان آخرٍ في الدنيا، دون أدنى إشكالية ليس لمواكب الأعراس فقط ولكن لكل أنواع المواكب. ولم يخطر ببالهما قط أن الشيخ سيرديهما قتيلان في لحظتها لمجرد أنهما حاولا أن يجتازا موكبه، دون حتى أن يبلغا ذلك. وتلك هي القصة في العمق!.