fbpx
مانديلا بين دروس النضال ومحاولات السطو عليه(1)

 

رحيلُ مانديلا، هو رحيلٌ فاجعٌ، رحيلٌ يتجاوز العادي والمألوف إذ يستمد سطوته  ليس من الرحيل (المادي) ذاته، فهذا الرحيل قد كان واقعاً منذ سنواتٍ عدّةٍ، ولكنه رحيلٌ يتكثّف في ضوء الحضورِ الرمزي الطاغي لهذا الإنسان الاستثنائي في وجدان العالم.

 فمانديلا هو، بلا شكٍ، ظاهرةً كبُرى في التاريخ البشري أجمعه، ظاهرةٌ فريدةٌ من نوعها استطاعت أن تلج إلى الفضاءات الرمزية الخاصة لكل جماعةٍ لتتواشج، بسلاسةٍ نادرةٍ، مع نسيج رموزها وأيقوناتها وعلاماتها البرّاقة، وتتحول في حضورها الكلياني إلى ملكيّةٍ عامةٍ يجري تقاسم مواردها الإنسانية بين جميع شعوب الأرض.

والحديث عن مانديلا هو حديثٌ عن سلسلة من المفارقات المُثيرةِ التي كان لسطوة الحضور لهذه الظاهرة، المتفجرة بالدلالات، تأثير حاسم في مجراها، على أن المقام هنا لن يسمح لنا سوى بالإشارة إلى أبرز اثنتين:

كيف أمكن لرجلٍ عاش طفولته في القرن العشرين ولم يعرف مجرد ارتداء الملابس إلا في السادسةِ من عمره أن يحظى بكل هذا الحضور الأسطوري الخلاب حتى كادت أن تتوارى بجانب هالته كل الرموز التي تقف وراء بروزها شبكات دعائية ضخمة، عابرة للمحيطات، في العادة، باتت تُفصٍّل، لوحدها أنواع ودرجات القيم والمراتب، فترفع من تشاء، وتحط ممن تشاء!

وكيف أمكن لرجلٍ أسودٍ، من أفريقيا، وفي ذيل قارتها، وهنا أشير إلى تأثيرات المكان، أن يتحوّل إلى أحدِ أنبياءِ البشريّةِ الخالدين. فعلى حد علمي لم يرد في أي تاريخ من تواريخ الأديان، وتواريخ الأمم والشعوب، أن رمزاً كبيراً من بين رموزها، وكذلك أنبياءها، كان ذا بشرةٍ حالكةِ السواد (حالةُ عنترة العربية، حالةٌ مختلفةٌ، حالةٌ ارّقتها متاهات الصحراء). وليس من المبالغة القول هنا، أن “الظاهرة المانديلاية” قد أحدثت ثورة عظمى في رمزيّة ألوانِ البشرة، فرغم كل القيم التي تزعم البشرية أنها أنجزتها، ما زال للملائكةِ إطلالةٌ بيضاء أو صفراء، لا جدال فيها، وما زال شياطين الجن والإنس يتكشفوا من خلال اللون الأسود… للمرة الأول صار المعنى الرمزي للألوان مختلفاً، أصبح بإمكان الشيطان أن يكون أبيضاً أو أصفراً فاقعاً، وأمكن، بالمقابل، أن يكون المَلَك أسوداً كالح في صورة مانديلا.

على أن مقاربة شخصيّةٌ بمستوى مانديلا من زاوية سيميولوجية-اجتماعية لن تعود بفائدة مرتجاة، خصوصاً من الناحيةِ العمليّةِ، لأولئك المنتمين إلى شعوبٍ وجدتْ نفسها مضطرةً سلفاً إلى أن تزج بحياتها، منذ الولادة وحتى الممات، في مفترقات، لا نهاية لها، من مسالكِ ودروبِ النضالِ الشاقِ. فحتى نستفيد من مناديلا نضالياً على الوجه الأفضل، علينا أن نحرر تجربته النضاليةِ الفذّةِ، بكل المقاييس، من كل ما علق بها؛ نحررها من التداخل ـ الضال ـ بين الدعائي والجوهري، الأسطوري والواقعي، الخارق والعادي، التوظيفي والأساسي حتى لا نتوه في التخوم المتشابكة فتتعذر علينا القدرة على التمييز بين: المهمِ والأهمِ، المركزي والهامشي، الوسيلةِ والغايةِ، في ثنايا مسيرة طويلة، تقلّبت مراحلها، وتبدلت أدوارها وأدواتها وغاياتها، أيّما تبدّل!

فإن يتحول مانديلا إلى أسطورةٍ لدى الناس العاديين، ذلك ما ليس منه خشية، ولن يبعث على كثيرٍ من القلق في نفس الباحث خوفاً من الوقوع في انحرافاتٍ خطيرةٍ تغويه عن الاقتراب من فهم مضمون التجربة عند معاينته لها، لكن الخشية لا بد أن تأتي من الصورة المريبة التي تتعامل بها الترسانات الدعائية الضخمة المرتبطة بمراكز الهيمنة العالمية مع هذه الظاهرة. تلك الترسانة التي أرادت أن تسطو على تجربة مانديلا باقتطاعها عن سياقها العام كي تصرف الانتباه عن المبادئ والثوابت الأساسية في الجانب النضالي من حياة مانديلا، وهي مبادئ وثوابت تقلقها كثيراً فيما لو تسربت إلى شعوب العالم المضطهدة، محاولةً التركيز، عوضاً عن ذلك، وبمستوى هائلٍ، على محطاتٍ بسيطةٍ، منها مثلاً تلك اللحظة التي يبدو فيها رجلٌ أسودٌ (مظلومٍ) يُصافِح رجلاً أبيضاً (ظالماً)، لتطفو بذلك على ما سواها، ثم تصدرها كترياق (أممي) تداوي بها علّة المظلومين في إرادة المقاومة، وتمنحهم وهم راحة العيش في خنوعٍ مع الظالمين!

وعلى أهمية مثل هذه اللحظة التي تتبدى فيها القدرة الخارقة، بالمعايير البشرية، على اجتراح العفو والسمو في ذروة النصر، لكن أن يتم اقتطاعها عن سياقها وشروطها، فتلك اقسي إهانة يمكن أن توجه لحياةٍ نضاليّةٍ حافلةٍ بكل معاني المقاومة والكرامة. إن هذه الوضعيّة ـ المجتزأة ـ لمانديلا، هي أقرب إلى أن تُظهّره في صورة الخانع (الإمّعة) منه في صورة “أسطورة التسامح”. فكيف يمكن لمناضلٍ مثله أن يمد يده لرجلٍ لم يكف بعد عن ممارسة أبشع قذاراته؟

إن محاولات فهم مانديلا لن تكون صادقةً إلا من خلال فهم تجربته النضالية بوصفها جزء لا يتجزأ، كما أنه يجعلنا أقدر على التواصل (ومواصلة) مع مشروعه التاريخي. أما المحاولات الساعية لشحن تجربته بإضافات لا واقعية (مؤسطرة)، أو إخضاعها لعمليات من قبيل عمليات الاقتطاع والبتر، هي تعبيرٌ إما عن عدم فهم واستيعاب لمشروعه الإنساني والقيمي، وإما أن تكون شرك يُراد منه  وأد تجربة النضال الحقيقية في أبعادها ومراحلها المختلفة.

في سيرته الذاتية التي كتبها في نهاية رحلته النضالية الشاقة، ووضع لها عنوانٌ كثيفُ الدلالةِ «رحلتي الطويلة من أجل الحرية»، يمكن رصد أبرز أربع مراحل أساسية، على الأقل، يمكن إيجازها بالآتي:

انضم في مطلع الأربعينات إلى حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» الذي استمر على نهجه السلمي في النضال منذ تأسيسه في العالم 1912م، لكن انضمامه، في بداية الأمر، لم يكن نابع عن إيمان عميق بمشروع الحزب النضالي، كما يصف ذلك بنفسه. بعد بضع سنوات ـ تسع سنوات تقريباً ـ من انضمامه للحزب، شارك في حملة اسمُوهَا “حملة التحدي”، وكانت أشبه بعصيان مدني عام. وفي هذه الحملة التي بلغ بعدها “رشده كمناضل من أجل الحرية”، على حد تعبيره، يصف مشاعره: «غمرني شعورٌ عارمٌ بالرضى بأننا حققنا إنجازاً كبيراً، فقد شاركتُ في العمل من أجل قضية عادلة، وبذلت كل ما في وسعي للدفاع عنها، وكسب الجولة. لقد حررتني الحملة من كل ما تبقى في نفسي من شكوكٍ أو شعورٍ بالنقص، كما حررتني من انبهاري بقوة الرجل الأبيض ومؤسساته التي كانت تبدو لي وكأنها لا تُقهر. أما الآن فقد أذقتُ الرجل الأبيض طعم لكماتي، وأصبح بإمكاني أن أمشي مرفوع الرأس، وأواجه الجميع بعزة وكرمة نابعة من عدم رضوخي للظلم أو استسلامي للخوف» (رحلتي الطويلة من أجل الحرية، ت:عاشور الشامس، ص135).

في المرحلة الثانية، وهي مرحلة “الكفاح المسلح”، يصف مانديلا هذا التحول الذي وصفه بالحاسم: «كان إيماني الشخصي هو عكس ذلك، إذ كنت أرى أن النضال السلمي وسيلة يمكن التخلي عنها عندما تفقد جدواها». وفي اجتماع اللجنة التنفيذية للحزب الذي كان مانديلا أحد أعضاءها دار نقاشٍ عاصفٍ على اقتراح مانديلا بالتحول إلى الكفاح المسلح، وقد جاءت أقوى الانقتادات من جانب موسى كوتاني، أحد أهم أعضاء اللجنة، بهجومٍ عنيفٍ اتهم فيه مانديلا بأنه لم يعط الموضوع ما يستحقه من الدراسة والتفكير، وبأنه أصيب بالقنوط والتراجع أمام مناورات الحكومة، مضيفاً القول: «إن الوسائل القديمة لا تزال صالحة لو استخدمنا عقولنا وخيالنا وكنا أكثر تصميماً. أما إذا انطلقنا في الاتجاه الذي ينادي به مانديلا فسوف نعرض النّاس الأبرياء للمذابح على يد العدو». كان رأي مانديلا الذي برر فيه استخدام القوة هو أنه عندما تتحدى كرامة الإنسان فتوقع منه المقاومة والتصدي بكل الوسائل المتاحة: «إن المناضلين يتعلمون من التجارب القاسية أن الظالم/الطاغوت هو الذي يحدد طبيعة النضال وأنه لا خيار أمام المستضعفين سوى استعمال وسائل من نوع تلك التي يستخدمها العدو، وأن الوقت سيحين ـ عاجلاً أم آجلاً ـ إلى مواجهة الرصاص بالرصاص» (رحلتي الطويلة: ص 160-161-162). دافع مانديلا بقوة عن اقتراحه واجبر الحزب للموافقة على تشكيل فصيل مُسلح اطلق عليه «أمخونتو وي سيزوى» (رمح الحربة)، واختصارها “أمكا”، وأُوكل إلى مانديلا قيادتها. وبعد مرور ما يُقارب السنة على تشكيل هذا الفصيل، تم القبض على مانديلا، ومحاكمته بتهمة القيام بأعمال عنفٍ وإرهاب، وتم الحكم عليه بالمؤبد.

في السجن، بلغ نضال مانديلا ذروته، كانت الأشياء التي يُناضل من أجلها بسيطة جداً مقارنةً بما كان يفعله خارج السجن، كالمساواة في نوعية الملابس المخصصة للمساجين، والمساواة في نوعية الطعام..إلخ، ولكنها كانت أبدع محطاته وأكثرها إذهالاً وعظمة، من وجهة نظري، سلطت الضوء بعمق على الإرادة النضالية الخارقة لهذا الإنسان الاستثنائي.

أما المرحلة الرابعة، فكانت مرحلة “الحوار مع العدو” كما عنون لها أحد فصول سيرته الذاتية، وهي المرحلة التي تلت خروجه من السجن وانتخابه كرئيس للحزب الوطني الأفريقي. يشير مانديلا إلى هذه المرحلة بالقول: «فيما يتعلق بنبذِ العنفِ، قلتُ إن المشكلة ليست رفض حزبنا لنبذ العنف، ولكن الحقيقة هي أن الحكومة ليست على استعداد لتقاسم السلطة مع السود. إن حكم الأغلبية والسلم الداخلي وجهان لعملة واحدة، وعلى البيض في جنوب أفريقيا أن يقبلوا بأن هذا البلد لن يعرف السلم والاستقرار إلا بتطبيق مبدأ حكم الأغلبية تطبيقاً كاملاً» (رحلتي الطويلة: ص511). وعندما سئُل، مرات عديدة، فيما بعد، كيف يعن له أن يقبل اقتسام جائزة نوبل للسلام مع دو كليرك، أخر رئيس وزراء أبيض في جنوب أفريقيا، وقد انتقدته بشدةٍ في مناسباتٍ كثيرةٍ. رد مانديلا قائلاً: «رغم أنني لن أتراجع في مآخذي عليه أقر بأن كليرك ساهم مساهمة صادقة وثمينة في عملية السلام» وهي العملية التي أدّت في نهاية الأمر إلى وصول الغالبية السوداء إلى سدّة الحكم (رحلتي الطويلة: ص574).

إن الحريّة التي سار مانديلا من أجلها طويلاً لا يُمكن أن تُعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حراً أو لا يكون!