fbpx
بين سراجين وأشباحٍ كُثُر

بقلم | امين اليافعي

ثمّة أشياءٌ قليلةٌ تبعث على الكثيرِ من الدّهشة في الجنوب اليوم، إحدى تلك الأشياء مؤسسة أسمها “عدن الغد”.
ففي ظروفٍ بالغةِ الصعوبةِ، وواقعٌ جعل ممارسة الحياة فيه، وبأدنى حدودها وفتاتها الممكنين، أشبه بمحاولات ولوجٍ قسريةٍ في سِمِ الخِياط. وما من شيءٍ أكثر تواطؤا في تمادي عالم الضيق المُحكم هذا أكثر من شُحِ الفرص، وشُحِ الأحلام!

فيما مضى، مثّلت صحيفة الأيام، ومنذ الحرب القذرة، الأكسجين الذي تنفس من خلاله الجنوبيين الصُعداء، وسماها أبو بكر السقاف بـ”الوطن البديل”، والعلاقة الانفعاليّة بين الفرد ووطنه هي علاقة شديدة الدلالة والكثافة والخصوبة والارتباط. ولأنها كذلك، فقد جنّبت الناس إلى حدٍّ كبيرٍ من الوقوع في حِمم العدوانية المتولدّة نتيجة القهر والقمع والتدمير المُمنهج؛ العدوانية في حالتيها: المتجهة نحو الآخرين، والمرتدة صوب الذات. فسيكولوجية الإنسان المقهور والمقموع تُدفع بفعل ديناميات القهر إلى فك أي ارتباطٍ عاطفيٍّ بالآخرين وبالأشياء، هي شخصيّةٍ متشككةٍ بامتياز، ومن العسير أن تنالها الثقة. وحين يتفاقم الأمر، ولا تملك المقدرة على القيام بالاحتجاج والتمرد ضد واقع القهر، أو لا تستطيع حتى الجهر بشكواها، تعيش المأساة في عمقها من خلال عدوانيّةٍ كامنةٍ تجاه الآخرين، وعدوانيةٍ صارخةٍ تجاه الذات التي يُنظر إليها كذاتٍ خّرِبةٍ يعبث بها الضعف والمهانة والإذلال والمآسي. وقد كانت الأيام، في حدّها الأدنى، بمثانة المنبر الأمين الذين استطاع من خلاله الجنوبيين الجهر بشكواهم، وبملء أفواههم.

وحين جاء قرار إيقافها القسري، دافع الجنوبيون عنها باستماتةٍ قل أن نشهد لها مثيلاً، وربما على مستوى العالم، إن لم يخنّي التقدير. ولم يكن دفاع الجنوبيين الملحمي يومئ إلى مجرد الوقوف بجانب صحيفةٍ اعتادت أن تُخصِّص مساحةً كبيرةً لأخبار الجنوب، مثلها مثلما تفعل صحفٌ أخرى. ولكنه كان في أوضح صورة له دفاعٌ عن شيءٍ يَحس كل فردٍ في الجنوب بأن له نصيبه الوافر فيه، كان دِفاعٌ عن “حُرْمةِ الحِـمى”، تماماً مثلما يُدافع المرء عن أرضه وعرضه!

توقفت الأيام الخالدة في وجدان الجنوبيين، ودأب اليأس فيهم، وتزاحمت الصُحف والمواقع الإخبارية من كل حدبٍ وصوب، لكن مكان الأيام بقي شاغراً بقوة.

وفي قعر هاوية هذا اليأس، أنطلق عددٌ من الصحفيين الذين لم يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، وجميعهم من الوجوه الشابة والجديدة، وتلك استثنائية مضاعفة، انطلقوا في رِحاب الإعلام المهني والجاد والملتزم كامتدادٍ متناغمٍ ومخلصٍ لمدرسة الأيام، فأعادوا خلال زمنٍ قياسي للوردة أريجها، وللبحر نسمته، وللسماء صفائها، وللشباب في الجنوب صورته الإيجابية كنموذجٍ بارزٍ للنماء والكفاءة والاقتدار والقيّمة…

فليُدرك كل من توسوس له نفسه الأمارة بمية مليون سوء أن محاولته لإطفاء السُرُجِ المُنيرةِ سيعود عليه بخسائرٍ فادحةٍ، وباهظةٍ للغاية، ولن يستطيع هو ومن معه في السر والعلن على تحمل تكلفتها أبداً.. سيرجِعُ الصدى يا وحيد اللارشيد، ولن يهبك قط لؤلؤاً أو محاراً، بل سيهبك الردى..الردى!

تضامننا الكامل مع صحيفة عدن الغد، ومع رئيسها تحريرها الصديق العزيز فتحي، وجميع طاقمها الرائعين.