fbpx
إضاءة ثانية : التواصل بصدد القطيعة!

ليس هُنالك تواصلٌ على الصعيد السياسي يفوق التواصل الذي يجري بين الجنوبيين وعبر مُختلف وسائل وتقنيات الاتصال، بل وربما ليس من المبالغة في شيءٍ القول هو من الوفرة والانهماك بصورةٍ  قلّما تشهد له مثيلاً، سواء في تعاطيه الإيجابي أو السلبي مع حدثٍ أو موقفٍ من قضيّةٍ ما؛ فالمواقع والمنتديات على الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، واللقاءات على أرض الواقع غدت من الكثرة والسِعة لدرجة أنه بات من الصعوبة البالغة على المرء القيام بحصرها.

ولا يُفسِّر هذه الشراهة في تعزيز التواصل الفيزيقي سوى أنها تأتي كتعويضاتٍ يقوم بإنتاجها الجنوبيّون بُغية إخفاء أو تفادي الارتطام بذلك اللغز المُبهم والمُحيّر للغاية؛ فهذا التواصل المهول في وفرته وفق المعيار الكمّي، هو على مستوى النتائج مهولٌ في جدبه وشقائه، بمعنى أنه تواصلٌ لا يفضي ـ في غالبه الأعم ـ إلى أي نتيجةٍ من شأنها أن تُسْهِم في تقضيم وتآكل حجم الفجوات والانقطاعات والالتباسات في المواقف ووجهات النظر بين التيارات سواء  المتفقة في خياراتها أو المختلفة من ناحية، وداخل كل تيارٍ من ناحية ثانية، وبين الأفراد من ناحيّةٍ ثالثةٍ، فهو إذن تواصلٌ بمحصلةٍ صفريّة، إن لم تترتب على إثره تبعاتٍ عكسيّةٍ تماماً لما هو متوقعٌ من غايته الرئيسيّة في التقارب وردم الفجوات… وقد صار من المُعتاد أن تستعد عقب كل مجازفةٍ “حقيقيّة” للتواصل، ومن أي نوعٍ كانت، لقطيعةٍ طويلة الأمد، ونفيٍّ صارمٍ على مستوى حضوركَ المادي، وبنفس القدر، حضوركَ المعنوي.

ولو قمت بتأملٍ بسيطٍ في أشكال وأنماط وأنساق المُمارسات التي تتم في سياق العمليات التواصليّة المختلفة، لما غابت عنك رؤية الاتجاه الأحاديّ الجانب الذي يقوم عليه الموقف التواصلي برمته بين المشتركين في أي عملية، والذي يمكن الإشارة إليه سريعاً هنا من خلال نمطين أثنين:

النمط الأول ما يمكن تشبيهه بوضعيّة “الجُزُر المُنعزِلة”. وفي هذه الوضعيّة لن يغني الوجود المادي للأطراف الداخلة في خِضم الفعل التواصلي شيئاً في سبيل مد جسورٍ وقنواتٍ يمكن من خِلالها لأفكار ووجهات نظر كل طرفٍ أن تتدحرج ولو رويداً رويداً من ضِفّته إلى الضِفّة المُقابِلة. فالطرف المُبادِر يكون مُكتفياً ذاتياً أثناء الفعل التواصلي بما يبوح به من مقولاتٍ ووجهات نظرٍ دون إبداء أدنى رغبةٍ أو اهتمامٍ لمشاركة الطرف الآخر ولتفاعله وحتى لوجوده! وإذا قاربنا هذا النمط التواصلي بطريقةٍ حسابيّةٍ فسيكون على النحو الآتي: مُرسلٌ (100%) ومتلقٍ (0%).

النمط الثّاني يأتي على نقيضٍ تماماً من النمط الأول، فهنالك من لديه رغبةٌ عارمةٌ في تتبع وتقصي كل ما يَصْدُر عن الطرف الآخر، ولكنها رغبةٌ تُذكِّرك بالطريقة ذاتها التي يتعامل بها مُحققٌ مع أقوال متهمٍ لا ينبغي له أن يَفْلِت من أي تهمةٍ. وربما ستفاجئ بتلك المهارات المذهلة في استنطاق “الخَرَس” لصك الأدلة الدامغة!

كِلا النمطين يُمارِسان الإلغاء الجذري بحق الطرف الآخر، ولكن كلٌ منهما يلغيه على طريقته الخاصة. ففي الأول لا وجود و لا أثر ولا اعتبار للطرف الآخر بالمُطلق، وفي الثاني وجود الطرف الآخر لا يكون إلا افتراضيّاً، إذ يتعرض لعمليةٍ دائبةٍ ومتعددة من الإمحاء وإعادة التشكيل، وهي عمليّةُ سطوٍ كبيرةٍ حتى غدا في حضورٍ وتَمثُّلٍ  قد لا يمتان بصلةٍ لحضوره وتَمثّله الحقيقيين بقدر ما يُعبّران عن إحدى جوانب وأبعاد الذات التي تقوم بإعادة التشكيل والإنتاج.

من المتوقع أن لا يبلغا هذان النمطان اللذان يتحكمان في صياغة وتوجيه صيرورة العملية التواصلية بين القوى والأطراف السياسية والاجتماعية في الجنوب الحدود الدنيا من “الموقف التواصلي المثالي” والذي يعني أن كُلاً من طرفي التواصل لديهما الرغبة والاهتمام المُسبق ـ القَبْلي ـ ذاته في فهم أحدهما للآخر. والفهم أو التفاهم هُنا يُفيد بأن المُشاركين قد توصلوا إلى أتفاقٍ، والاتفاق يستدعي “الاعتراف الذاتي المُتبادل” باحتمالية صحة رأي الطرف الآخر ولو بنسبةٍ ضئيلةٍ أو على طريقة الإمام الشافعي في عبارته المأثورة (رأينا/مذهبنا صوابٌ يَحتملُ الخطأ، ورأي/مذهب غيرنا خطأٌ يحتملُ الصواب). وفي هذا الصدد لن يقوم كل طرفٍ بالتأمل والمراجعة المُستمرة لمواقفه فحسب وبما يؤدي بالضرورة إلى رفع الفهم الذاتي، والذي لا يمكن له الارتقاء إلا من خلال التفاعل مع الآخرين، ولكنه سيفضي بكل تأكيدٍ إلى فهم أعمقٍ ـ وليس إلغاء ـ للآخر واعترافٍ بوجوده المادي والمعنوي، الأمر الذي يُحافظ ويصون ويديم الاجتماع.

بقي الإشارة إلى شيءٍ أساسيٍّ وجوهريٍّ وهو السياق الذي تتم فيه العمليّة التواصليّة، والسياق مكوّنٌ بنيويٌّ في العمليّة إذ يُمثِّل البيئة والمحيط والخلفية السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والنفسيّة التي تتشكل في إطارها جميع عمليات الاتصال والتواصل بما ينتجه من استجابات وتكيّفات وافتراضات ومقاييس .. إلخ تتدخل بضراوةٍ في فك واستيعاب رموز وشفرات رسائل الآخرين.

في هذا تحديداً، أتذكر جيداً حادثةً شخصيّةٍ طريفةً جرت قبل أكثر من عامين، وما زالت محفورةً في الذاكرة.  وهي محفورةٌ لا لشيءٍ إلا لكونها غدت لدي الشاهد البليغ على المدى البالغ الذي يُمكن للسياق أن يُحدِّثه في تحريف مغزى “رِسالةٍ” ما، وإن كان عن غير قصدٍ أو تحاملٍ بالطبع. المهم.. كنّا مجموعةً من الأصدقاء نتجاذب أطراف الحديث عن ملامح دولة المستقبل، وكان مجمل النقاش يدور عن الطريقة/الآلية المُناسبة التي يُمْكِن لأي مجتمعٍ يشهد تعدداً وانقساماً على المستوىين العمودي والأفقي أن يصنع دولةً مستقرةً. ولعل السياق الحالي، ونحن نتحدث هنا عن تأثير السياق، الذي يعجُ باضطراباتٍ هائلةٍ في أرجاءٍ مختلفةٍ من العالم بسبب سوء إدارة الأنظمة الحاكمة لمجتمعاتها المتعددة قد أجبرنا على أن يغدو هذا الهم/المُعضلة هو أكبر هواجسنا بشأن دولة المُستقبل.

كانت أمريكا المثال الأبرز والأقرب إلى الذهن، فاستحضرتها مباشرةً، واستحضرتُ استبصارات جون آدمز النافذة، وهو أحد أهم صُناع السياسة الخلاقين على مر العصور؛ منها ما جاء في إحدى رسائله إلى “الآباء المؤسسين” مشيراً عليهم بأنه لن تكون هنالك دولةً مستقرةً إلا في حال تم حماية حقوق الأقليّة من الأكثريّة.. ودون أن أكمل الفكرة قاطعني أحد الأصدقاء بسرعة البرق غامزاً إلي بأن المفروض القيام به في حالتنا هو أن نحمي الأكثريّة من الأقليّة وليس العكس (وأنا محسوبٌ بالطبع على الأقلية)!

كان مُحقاً، وهذا ما كنتُ أريد قوله، ولكن الصديق الصدوق عاجلني بالأمر. بيد أن هذه الواقعة البسيطة جعلتني أفكرُ كثيراً بطبيعة سياقنا التواصلي في الجنوب، والكيفية التي تُفك وتقرأ وتتداول الرسائل في إطاره، وهي عملية مُعقدة ومُلتسبة ومشوهة إلى أبعد حدودٍ.