fbpx
إرهابي في “معاقل” البي بي سي!

كتب أمين اليافعي

لا يَسلك عبدالله غُراب “طريقاً سفلياً” في تناوله لكل الأحداث التي جرت وتجري في الجنوب فحسب، ومفهوم “الطريق السفلي” وضعاه كلٌ من يوهان غالتونغ وجاك لينش للتمييز بين توجهات وتدابير إعلام السلام وإعلام العنف أثناء تغطية النزاعات، وتغطية الإعلام الأمريكي لحرب أمريكا الأخيرة على العراق بوجه الخصوص.
“الطريق السفلي” هو الطريق الذي يسلكه إعلام العنف، فهو ينظر إلى الأمور من منظورٍ “نحن في مواجهتـ(هم)”، فيصبح بالضرورة النظر إلى الـ(هم) باعتبارهم شياطين، ويشكلون “خطراً واضحاً وقائماً عليـ(نا)” يستدعي اخضاعهم للردع والسحق. وإزاء مُوجِهاتٍ بدئيةٍ كهذه يصبح أمر تجاهل وجهات نظر الطرف الآخر أمراً لا بد منه، وتصبح مسألة “قلب الحقائق”؛ وهو تعبيرٌ راقٍ لأسلوب “إعلام السوق السوداء” في تحويل “الأكاذيب” إلى حقائق، تصبحُ هذه المسألة لا بد منها أيضاً. والضحيّة الأولى، في النهاية، ليست هي “الحقيقة” وكما هو شائعٌ بين الناس، فتلك الضحيّة الثانية فقط، وأما الأولى فهي، بطبيعة الحال، السلام على حد تعبير غالتونغ ولينش.

“الغراب” عبدالله، لا يضع نفسه بمثابة إعلامي ـ طريق سفلي ـ ماهرٍ في مواجهة جماعته (الشمال) لمطالب الجنوبيين بالاستقلال فحسب، وليته أكتفى بذلك، لكان أهون بكثيرٍ من وضعه الحالي البادي فيه كقائد معركةٍ ميداني يحاول جاهداً ـ وبدأبٍ استبد به ـ استكمال المهمة الأساسيّة المتمثلة في عملية “محو الجنوب”.

“الوحدة” كما يُطلق عليها في الشمال، “والوضع القائم”(الاحتلالي) كما نُطلِق عليه في الجنوب، صار مصيراً كينونيّا ـ نكون أو لا نكون ـ بالنسبة للشمال، من هُنا صارت “الوحدة” عقيدة الشمال الأكثر متانةً، بل حتى صارت أكثرُ متانةً من العقيدة التي اتى بها فتى قريش! لهذا فطبيعة العلاقات (السياسيّة) المحتدمة بين شمالٍ مُنتصرٍ وغانِمٍ وجنوبٍ مهزومٍ وعليه أن يبقى مجرد “غنيمةٍ “مُستدامةٍ” غدت واضحةً وبسيطةً ومختصرة بوضوح وبساطة واختصار الشعار الإيديولوجي الحربي الحاسم ـ “الوحدة أو الموت”. وفي ظل إصرار غالبية الجنوبيين الساحقة لفك ارتباطهم عن “الشمال”، ما من شيءٍ سيجعل الوحدة تدوم في الواقع سوى استكمال مهمة المحو التي بدأت منذ الحرب القذرة وهي في تضافرٍ مزدهرٍ وبنقلاتٍ ماهرةٍ حتى تَصِل نهايتها/غايتها القصوى!

لو كان “الغراب” يعملُ في “اليمن اليوم”، “سهيل”، “أزال”، “السعيدة”، قناة اليمن الحكومية، أو أيٍّ من الخردوات الموجودة في صنعاء، لهان الأمر كثيراً، وهو أمرٌ بتنا بقلوبنا الباردة أو الحارة نتكيف معه؛ نتجاهله مراتٍ وننفجر في وجهه مراتٍ أُخر.. وهكذا. لكن أن تأتي هذه “السقطات” الفظيعة بفظاعة وجه الوحدة الكئيب من مراسل أكبر مؤسسة ومدرسة للإعلام في العالم (BBC)، علّمت وما زالت تُعلِم العالم قيم ومبادئ ومعايير المهنيّة، ثم تتكرر السقطات في كل مرةٍ دون أن يكون لها رقيبٍ أو حسيبٍ، فتلك مسألةٌ مُحيّرةٌ، بل وتضع علامات استفهامٍ كبيرة، وكبيرةٍ جداً تذكرنا ربما بحجم مساحة الإمبراطورية التي لم تكن للشمس أن تغيب عنها”! خصوصاً إذا ما أدركنا أنه لم نسمع قط أن البي بي سي، بشبكاتها الواسعة جداً، أن حدث وتمرغت بكل هذا الوحل في أي “زوّةٍ” بلغتها تغطيتها.

علينا أن نعترف ولا نُكابر، ففي المرات السابقة كانت هناك ثغرات تتيح المناورة ودس التلفيقات هُنا وهُناك، وعبدالله الذي لم يؤت من الأمانة شيئاً ليس ذنبه أن يكون “نذلاً”، فاخر النذالة، ويستفيد من كل ذلك. لكن أحداث مدينة سيئون الأخيرة، المدينة الآمنة والمسالمة كالماء، كانت واضحةً للغاية، الوضوح الذي يخجل من نفسه أن يتوزع في متاهة الاحتمالات والتخمينات والتلفيقات وإلا لكان سبقه إليها كل عكاشة موجود في صنعاء (وسائل إعلام السلطة المتعددة الرؤوس والأذناب) يجيد اقتفاء مجرى الوحل. الغربية أنهم قالوا الحقيقة بكل صدقٍ هذه المرة، والذي دفعهم إلى تصرفٍ (نادرٍ) كهذا ليس بسببٍ ريح من “الوَرَعٍ” طيبة اجتاحتهم على حين غِرةٍ بل لأن الفاعل كان معروفاً للجميع، ولم يكن هنالك أدنى داعٍ لتفتيشٍ مضنٍ في السراديب، ووحده “الغراب” من أصر على ألا يمر الأمر دون أن يُطلِق نعيقه!

شيءٌ آخرٌ؛ هذه المرة لم تقتصر المسألة في حدود قواعد الاشتباك بين شمالٍ وجنوبٍ، وإن كانت هي المعادلة الأساسيّة والأصليّة، ولكن كانت هنالك “قاعدة”، وصحيحٌ أن قوى في الشمال توجه اهدافها وعـالمكشوف، لكن لا يمكن إنكار وجود الـ”قاعديين”، وبات العالم كله معني بأمرهم. ومعنى ذلك إن إقحام الجنوبيين عن طريق اتهامهم بالوقوف وراء أحداث سيئون الأخيرة، وبتلك الطريقة المُستفزّة، لا يُفهم كمجرد أسلوب حقيرٍ للنكايةٍ بِهم، وكما جرت عادة “حليمة” في كل مرة، ولكنه إفصاحٌ سافرٌ عن الاحتقان الدامي الذي أُسْتُفِز بعد ضرب معاقل القاعدة، الاداة الناجعة التي يُراد بواسطتها تحويل الجنوب إلى رمادٍ.

كان للفيلسوف الألماني هيدجر عبارةً مأثورةً (لا يوجد شيءٌ بدون عِلّةٍ، بدون سببٍ) صاغ من خلالها مبدأه الشهير(مبدأ العِلّة)؟..والقصد هنا ليس التذكير بهيدجر ولكن بـ”مبدأ العِلّة”.. فإذا كانت، ولا تزال، وستكون أسباب عبدالله غُراب واضحة وضوح الشمس، ولا تحتاج إلى بحثٍ أو تفسيرٍ، لكن السؤال يبقى مُلِحاً ومفتوحاً عن أسباب مؤسسة عريقة كالبي بي سي، ومن ورائها حكومة بريطانيا (العظمى)، تدفعها إلى الوقوع بتمادٍ غريبٍ وغير واضحٍ بالمرة بغض الطرف عن الانحرافات (الشنيعة) التي يقترفها “غرابها” في اليمن!!

تذكير

التعريف العالمي للإرهابي هو “الشخص الذي يقوم بتشجيع أو تنظيم أو مشاركة ـ مباشرة أو غير مباشرة ـ في أي عمل عنفٍ دنيءٍ أو تخريبي يحتمل أن ينتج عنه أو يتسبب في موت أو إحداث أضرار خطيرة وجسيمة لأشخاص أبرياء ليس لهم أي دور في العمليات العسكرية”، هذا التعريف يُحدِّد من هو الإرهابي بدقةٍ!